لست أدري تحت أي مسبب استدعت الذاكرة حدثاً تاريخياً لم تمحه الأيام مضي عليه أكثر من ستين عاماً زمانه نهاية الحرب العالمية الثانية واستسلام ألمانيا النازية في 8/5/1945 مكانة مدينة أيسن بالقرب من دوسلدورف موقعه المقر الرئيسي لمصانع كروب للصلب حيث المكابس والمسابك وآلات التشغيل الشامخة التي تخصصت في صناعة المدافع العملاقة وإنتاج الصلب الممتاز الخاص بهذه الصناعة وكان المشهد:دمار شامل في الأبنية والخرائب في كل مكان إلا أن الآلات والمعدات بقيت سليمة وشامخة تنطق بعظمة الصناعة الألمانية لا ينقصها سوي عمالها الذين تشتتوا ولم يبق منهم أحداً، وفي جانب من المشهد إعلان مكتوب علي ورقة داخل حافظة بلاستيك معلق علي باب المصنع المغلق عبارة عن دعوة لعمال مصانع كروب للعودة إلي العمل مع الإحاطة أن المصنع غير قادر علي سداد أية أجور للعمال وأن العودة للعمل سيقابلها وجبتا طعام يومياً. وللعجب الشديد أتي جميع عمال المصنع في اليوم التالي علي بكرة أبيهم يرتدون ملابس العمل الزرقاء مصطحبين معهم ما أتيح من الأبناء والبنات في سن العمل لينضموا للكتيبة العمالية المخلصة لمصنعها العريق الذي يمثل وطنهم الأصغر وذلك كأول تجمع لإرادة شعبية عمالية تسعي للنهوض بالوطن الأكبر ألمانيا الراكعة تحت وطأة وثيقة الاستسلام الموقعة دون قيد أو شرط. صدر في نفس اليوم من إدارة المصنع أول أمر تشغيل لقسم المكابس والتشكيل الآلي يقضي بإنتاج أعداد من أطباق الطعام المصنوعة من الصاج تخصص لأكل العمال لزوم وجبتي الطعام والتي تمثل الأجر اليومي لكل عامل. انتقلت بي الذاكرة بعد هذا للشعار الذي ردده ويردده الغالبية العظمي"خبز حرية عدالة اجتماعية"وكم هالني أن هذا الشعار علي براءته وصدق نواياه إلا أنه خلا من كلمة العمل أو الإنتاج باعتبارهما القوة المحركة للحصول علي الخبز وكذا الانطلاقة للحرية الكريمة للقوي العاملة والمنصة الحقيقية لعدالة التوزيع ومن ثم العدالة الاجتماعية إذ أنه بدون العمل تختل المعادلة ويصعب تحقيق أي من مطالب هذا الشعار. أثلج صدري أن أحداً من رجال الصناعة أو رجال الإنتاج لم تصدر عنه كلمة أثناء النقاش المحتدم حول الحد الأدني للأجور يعترض فيه علي هذا المطلب المجتمعي العادل. فبدا لي المشهد كما لو أن رجال الصناعة والإنتاج هم أصحاب الدعوة للمطالبة برفع الحد الأدني للأجور في باقي القطاعات وكما لو أن هذا الرفع مستوفي الغرض منه في القطاع الصناعي والانتاجي من قبل باعتبار أن رأس المال البشري هو المكون الرئيسي للتقدم الصناعي والمنصة الأساسية التي ينطلق منها التطوير والتحديث والدخول في معترك القدرة التنافسية. فإذا وضعنا اليوم مبدأ العدالة الاجتماعية علي مائدة البحث والتحليل فعلينا أن ندرسه علي مستوياته الثلاثة أي مسئولية الأفراد ومسئولية القطاع الصناعي والانتاجي وأخيراً مسئولية الدولة من هذه القضية. فعلي مستوي الفرد فإن طبيعة الشعب المصري المتمثلة في سلوك أفراده الذين يتمتعون بالطيبة والسعي لمرضاة الخالق في وسطية معتدلة لا تجنح لأي اتجاه معاكس، فلنا أن نري في سلوك هذا الشعب الطيب من خلال التزامه بأداء الزكاة كواجب ديني لا يتعارض مع التزامه الأدبي والإنساني برعاية المحيطين به من ذوي القربة و الجيرة أيضاً ومثالنا في ذلك أن أحداً في قري ونجوع مصر لا يبيت بغير طعام رغم عدم امتلاكه لأي قدر من مساحة الأرض القابلة للزراعة وخلو وفاضه من مصادر الدخل المعلوم وغير المعلوم. أما علي المستوي الصناعي والانتاجي فإن هذا القطاع علي اتساعه لم يشهد حالات تذكر من التخلي عن العمالة أو إيقاف النشاط أو تخفيض العاملين المثبتين أو اتجاه لتخفيض أجورهم رغم الأزمة الحقيقية التي أدخلت جانبا كبيرا من هذا القطاع إلي نطاق الخسائر المؤكدة والبعض الآخر الأحسن حظاً داخل نطاق انخفاض العائد وتردي الإنتاجية مما نحا به إلي إلغاء كامل لخطط التوسع والتطوير الصناعي في المنتجات والآلات وإلغاء خطط تطوير المنتجات واستبدالها بأخري أكثر حداثة واستيفاء لرغبة العملاء.. ونستكمل في المقال القادم.