بعث إلي »عمر« العمال علي الأمصار يقولون بأن قلَّ خراج الجزية إذ إن دخول الناس الإسلام كثر. فيردّ علي من يقترح عليه بألا يرفع عمَّن أسلم جزيته منفعل الصوت: ضع الجزية - قُبِّح رأيك - والله وددت بأن يسلم كل الناس.. وإن صرت وأنت معي مراثين فنكسب من كسب أيادينا أو جوعاً نتضوَّر. فالله قد اتبعت »محمداً« الهادي لا الجابي.. الداعي للحق.. الناهي عن شح الأنفس.. والآمر بالبر. كان هو السائر خلف خطي سيد خلق الله.. يشجعه الفاروق الجد علي ألا يتخلف أبداً عن إعمال السير. كان هو الخامس من خلفاء رسول الله يسير وراء الأربعة.. ويمشي الأربعة وراء رسول الله إلي حيث الرضوان جناناً حافلة بالبشر. وَليَ »أبو حفص« بعد صلاة الجمعة.. قال دمشقي من أفراد رعيته عاصر ذاك الحدث: فأنكرت ملامحه عند العصر. »إني أعجب ممَّن كانت بين يديه الدنيا.. فرماها تحت القدمين«.. وهذي كانت عن »عمر« رواية قيصر. »لم يتملأ من أكلٍ من يوم توليَّ حتي مات«.. وتلك شهادة خادمه.. كان فتي الأمويين الريَّان تُساق له أصناف الأطعمة.. ولكن الآن يراوده طعم العنب.. فيطلب من زوجته »فاطمة« الدرهم كي يشري عنقودين فلا يجد.. فلا يتسني أن يطعم ما يتشهاه.. ولا يعروه كدر. تعلم زوجته كم يشتاق إلي العسل.. فتدخر الدينار بشق النفس.. وترسل في طلب العسل.. فيصل.. ويأكل منه »أبو حفص« ويُسرّ. لكن النفس المتمرنة علي تقوي الله تنبه في »عمر« سؤالاً: كيف أتي العسل.. تجيب الزوجة: جلبته دواب بريد الأمة.. يمتقع الوجه العمري.. وتنقشع الفرحة عنه ويأمر: أن يُعرض للبيع وعاء العسل.. وتُعلف بالثمن دواب بريد الأمة.. ويؤنب زوجته: أتعبت دواب الأمة في شهوات عمر. لو ينفع قيئي لتقيأت.. وراح كما الأسد المجروح ينوح ويزأر. صار كما الأطياف شحوباً.. يتكفَّأ في مشيته.. فالجسم الواهن لا يتحمل ما تفعله الروح به.. فالروح رجاء ومني.. والجسم عناء وخور. والروح إذا ما كانت طامحة لذري شاهقة آيس من صحبتها الجسد المكدود.. وقصَّر. والنفس إذا ما كانت جامحة في طُلبتها.. يتقطّع في رئتي صاحبها النفس ويبهر. والقلب إذا ما كان عفياً أكثر مما يجب.. تفصَّد دمه من جدران الشريان الأبهر. الروح كما القوس المشدودة جداً ترمي السهم إلي وجهته النائية.. وإن كلفها ذلك قطع الوتر.. وإن لم تملك غير وتر. كان لعمر ابن يدعي عبدالملك.. ضميراً خلف ضمير أبيه العادل كان.. وقلباً من برِّ ينبض في أعراق أبيه المجدول من البرّ. منذ نعومة أظافرك يا »عبدالملك« وأنت تعاين كيف يكون الورع أباً.. فتشرَّبت التقوي كالسوسنة الناشئة بحضن العطر. وشببت عن الطوق.. فشب نقاؤك رجلاً للملكوت الرباني علي الأرض نُذر. كان إذا ما ركن أبوه إلي الراحة بعض الوقت يجيء يذكره.. والنفس العمرية لا تفتأ تتذكر. هل قمت برد مظالم أفراد رعيتك جميعاً.. يسأل »عبدالملك« أباه المكدود من العمل الشاق الهاجع في قيلولة بعد الظهر. ويرد عليه أبوه: أراني في نصبي محتاجاً أن أرتاح هنيهات حتي أرجع موفور الهمة.. فيرد الولد الصالح: أو تضمن يا أبتاه العمر؟! قم يا أبتاه.. فإن الظلم ثقيل التركة.. والمظلوم يناديك ضعيف الصوت.. فلا تبخل يا »عمر« عليه.. ولا عن نجدته تفتر. أنَّي لك بالراحة.. وعلي بابك أقوام وشكايات لم تُسمع بعد.. ومن لك يا أبتاه بأن تحيا للغد.. وغد الإنسان يراوح بين الناس وبين القبر. فيرد عليه أبوه: ادنُ بنيَّ.. فيدنو.. فيقبله بين العينين الصافيتين.. ويضرع: لله الحمد.. فقد أخرج من صلبي من يسندني في الأمر. ويموت الولد الصالح موت القديسين الصديقين.. فيحتسب »أبو حفص« جزءاً منه اقتُطع من القلب لدي الرحمن.. ويصبر. كيف لإنسان أن يتحمل ألماً يتجاوز طاقته الإنسانية.. إلا أن يسلم لله الأمر جميعاً.. فمشيئته في الكون قضاء.. وإرادته ليس لها راد.. ومقادير بني آدم بين يدي خالقهم - سبحان الله - قدر. في ذات مساء عشي سراجك يا »عمر«.. وكان لديك ضيوف من بعض الناس - وأنت أمير الناس - فقمت لتصلحه بيديك وتُقعد من همَّ إليه.. وأنت تقول: لقد قمت وعدت ومازلت عمر. كان تواضعك أميراً للأخلاق المتواضعة جميعاً.. وابناً شرعي النسب لملك الزهد المتربع في قلبك.. ملك يلبس مرقوعاً حتي لا ينسي الذات المخلوقة من صلصال الحمأ المسنون.. ويستكبر. اصطدم برجل غافٍ في المسجد.. فاستيقظ من غفوته ليقول: أأعمي أنت؟ فرد »أبو حفص«: لا.. وأراد التابع أن يقتص له.. فيصيح: لقد سأل الرجل سؤالاً وأجبت عنه.. فلا تتجبَّر. ولنا في سيرته باقٍ لو أن الله أمر.