ان قراءة ما كتبه شهود المعارك من الأعداء بدقة ووعي. تكشف لنا الجانب الآخر من الواقع البطولي الذي جسده المقاتلون المصريون في معركة السويس بعد توقف القتال في سيناء والجبهة الشمالية، بدأت القيادة الإسرائيلية تفحص أسباب الكارثة العسكرية التي لحقت بها، وتشكلت عدة لجان للتحقيق، كما صدرت مؤلفات تسجل شهادات ووقائع مضمونها يتركز حول هذا الهدف: لماذا جري ما جري؟ أشهر هذه الكتب »التقصير« الذي كتبه مجموعة من المؤلفين الاسرائيليين خاضوا الحرب وكانوا في المواقع الأمامية وشهدوا أدق اللحظات الحرجة. ترجم هذا الكتاب بواسطة مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي كان مقرها في بيروت، وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد انشأت عددا من المراكز البحثية المهمة في لبنان، أهمها مركز الأبحاث الفلسطيني الذي أسسه الدكتور أنيس صايغ، وكان أحد الأهداف الاستراتيجية لهذه المراكز هو الحفاظ علي الذاكرة الفلسطينية. أذكر زيارتي لشعبة الأبحاث العسكرية عقب حرب أكتوبر ولقائي بالباحث المصري محمود عزمي الذي كان يرأسها وهو من أفضل المتخصصين في التحليلات العسكرية، وكان من كتاب مجلة الطليعة التي نشرت فيها شهادات السويس وحصار كبريت. لقد انتهت هذه المراكز البحثية الفلسطينية ودمرت وثائقها مع خروج المنظمة من بيروت في الثمانينيات، ولا أعرف مصير هذه المراكز مع تأسيس واعلان السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع الذي استولت عليه حركة حماس واحتلته في أخطر خطوة تهدد القضية الفلسطينية في مسارها الطويل، وتحولها إلي جزء من قضية أشمل وهذا موضوع قد أعود إليه مفصلا، في كتاب (التقصير) شهادة اسرائيلية عن معركة السويس، المحاولة الإسرائيلية للاقتحام والمقاومة الأسطورية للمصريين، وقراءة ما كتبه الطرف المعادي في الصراع تكشف أحيانا الكثير. هذا ما أورده بعد ان نشرت خلاصة ما جمعته من أبطال المقاومة وما جمعته من شهادات الرجال الذين قاتلوا ومعظمهم مازال يسعي بيننا، ان الحفاظ علي الوقائع وعدم التعامل معها بمنطق احتفالي أو موسمي جزء من الحفاظ علي ذاكرة الوطن. في الساعة 00.91، سري مفعول وقف القتال، إلا ان المصريين تمكنوا قبل ذلك من انزال قصف مدفعي ثقيل جدا علي رأس الجسر الإسرائيلي الذي أحدث التحول وقلب حظهم، كأنما أرادوا »وداعه«.
روي عاموسي، قائد قوة حماية الجسر: »كان القصف المدفعي المصري الأخير مخيفا. وما كدت أدخل إلي مجنزرتي، حتي سمعنا الصفير وسقطت قذيفة بالقرب منها، واحتكت بالفولاذ، وانفجرت علي مسافة متر واحد منا. كان الانفجار هائلا، ودخلت الشظايا إلي المحرك، واشتعلت سيارة الوقود وانفجرت سيارة الذخيرة. استمر سقوط البرد ربع ساعة. كنت واثقا انها نهايتنا. وسمعت تأوهات الجرحي حولنا، وأصواتا تستغيث من كل صوب: (مضمد، مضمد!) وفجأة ساد الهدوء، وشعرت اننا نجونا. ومن نجا كتبت له الحياة. وقد كلفنا قصف الوداع غاليا. ترتب علي هذه الضربة النارية المخيفة 11 قتيلا و72 جريحا. شعرت أن هذه هي »نهاية الحرب«. لقد تبدد الشعور الشخصي لقائد الجسر. ففي اليوم الثاني تجددت المعارك. فقد توقف الهجوم في المحور الشمالي عند مشارف الاسماعيلية، داخل بساتين المانجو المجاورة للكثبان المحيطة بمنازل المدينة، وانزوت قوة المظليين هناك تلعق جراحها بسبب نتائج القصف الذي تلقته قبل سريان مفعول وقف القتال.
وفي القطاع الجنوبي واصلت فرقتا بيرن وكالمان ماجنين المدرعتان مقاتلة القوات المصرية علي مشارف مدينة السويس، حيث كانت المعركة أحد أكثر المعارك الدامية ضراوة في القتال الذي دار غربي القناة. قال قائد فصيلة مظللين لجنوده الذين احتشدوا معه داخل مصفحة: »وأخيرا نستطيع ان نري تحصيننا علي رصيف الميناء من الجانب المصري. كنت مرة قائد ذلك التحصين، وكنت أطل كل صباح علي مدينة السويس. والآن أشاهد الرصيف من داخل المدينة«. تحفز المظليون الذين أرسلوا إلي داخل المدينة، علي المركبات: الباصات والسيارات المصفحة المصرية التي غنمت، وسيارات الجيب والدبابات وقد ساروا علي الطريق الجنوبي المؤدي إلي مدينة السويس. كان ذلك في صباح يوم الأربعاء 42 تشرين الأول (أكتوبر). وبدت مدينة السويس، من خلال الضباب، مدينة هادئة ترفل بالخضرة، وكان يقطن المدينة 000472 نسمة حتي نشوب معارك حرب الاستنزاف، وكانت رابع أكبر المدن في مصر. وظهرت في أطراف المدينة، علي ضفة خليج السويس الأزرق، معامل التكرير ومصانع الأسمدة الكبيرة. وخلال حرب الاستنزاف هجر معظم السكان منازلهم. ولم يبق منهم سوي بضعة آلاف من العاملين في معامل التكرير ومصانع الأسمدة. كان المظليون يعتقدون ان سكان المدينة هربوا منها قبل فوات الأوان، وهرب معهم أيضا آلاف الجنود المصريين متجهين إلي قمم جبال جنيفة وعتاقة المطلة علي المدينة.
تقدمت القوة متجهة إلي المدينة. وقال أحد المظليين: »ساد هدوء ممتع فعلا. وفجأة مر صاروخ »ساجر« فوق رؤوسنا وانزلق فوق رتل المجنزرات علي ارتفاع منخفض، وقد قطعت زعانف الصاروخ أصبعين من أصابع أحد الضباط. وراحت المجنزرات تبحث عن مخبأ من الصواريخ، وعندها أطلق صاروخ آخر رأيناه يمر فوق مجنزرة قائد الكتيبة ويقترب منا، كان هذا مشهدا مخيفا. فقد انفجر علي بعد بضعة أمتار أمامنا، تراجعنا إلي الوراء واستغلينا فترة الانتظار القصيرة لإعداد الفطور«. وفي الوقت ذاته، توجهت الدبابات في خط مستقيم، نحو قواعد الصواريخ المنتشرة غربي المدينة. صدر أمر للمظليين بالتحرك مرة أخري، وبحسب ما بدا للعيان كان الطريق إلي المدينة خاليا، والمدينة نفسها مهجورة. وكانت المصفحات والباصات ملأي بالمظليين المتمرسين في القتال، ومن بينهم من حرر القدس القديمة، خلال حرب الأيام الستة، ومن نال النياشين وحظي بشهرة فائقة بسبب دورهم في معارك حزيران (يونيو) 7691. وكان من بين هذه القوة جنود خدموا فترة طويلة في الدوريات داخل قطاع غزة، وألقي بالكثير منهم هناك واشتركوا في آخر معركة من الحرب، ك»مسافرين متطفلين« ولم يتوقع أحد أن تنشب معركة هناك، داخل المدينة. وتستمر الشهادة الاسرائيلية علي معركة السويس. نواصل الاسبوع القادم.