جمال الغيطانى من الغريب دعوة البعض إلي المصالحة مع من بدأ الهجوم علي المجتمع المصري بالقتل للقتل والحرق للحرق، أين العقاب السياسي والقانوني والجنائي. لست سنوات متصلة تقريبا عشت الحرب، منذ ان زرت موقع رأس العش بصحبة اساتذة أفاضل من دار أخبار اليوم، الفنان مصطفي حسين شفاه الله وعافاه، والمرحوم أحمد زين أحد اساتذة المهنة، والاستاذ صلاح قبضايا الذي تعلمت منه الكثير ومكرم جاد الكريم المصور الشجاع والفارس الحقيقي مصطفي شردي الذي تأثرت به كثيرا وكان مراسلا مقيما في بورسعيد، مازلت اذكر الصمت في رأس العش، واسماك القناة التي تضخمت لانه لم يعد احد يحاول اصطيادها، حتي الرابع والعشرين من أكتوبر بداية حصار السويس عرفت الحرب، تعرضنا مرات لغارات الطيران وحوادث الطرق، اعيش بالصدفة، لو تغير مكاني لقضي الامر، هكذا كان الحال منذ حوالي نصف قرن ولكن ما عاشه وطني خلال الايام الماضية اكثر رعبا واعمق خطرا إذ جاء الهجوم من الداخل، لقد عشت اياما في بيروت في ذروة الحرب الاهلية عام ثمانين ولكن ما يجري في مصر الآن مختلف. في الجبهة خلال حربي الاستنزاف واكتوبر كانت المواجهة بين جيشين كبيرين، موقع كل منهما محدد، الخطوط الفاصلة واضحة، حتي بعد العبور وتداخل الخطوط احيانا كان ذلك نادرا، وقد عشت وكدت اقع في الاسر مرتين في قطاع الفرقة 16، اثناء تغطيتي لمعارك الثغرة، ما كتبته منشور في الاخبار. رغم وجود الطيران والبحرية وكل انواع القتال كان هناك منطق لكن عندما تبدأ الحرب الاهلية ينتفي المنطق تماما ويبدأ استسهال القتل والدم، والدم جالب للدم. كنت في مدينة المهندسين صباح بدء الهجوم الارهابي الاخواني ضد المجتمع المصري، هذه تجربة جديدة علي المصريين لم نعرفها حتي في عصر الاحتلال العثماني، كانت عصابات المماليك المتصارعة معروفة، واضحة، لكل منطقتها ومكانها وانصارها، اما ان تجد جارك قد اصبح عدوك وجليس المقهي يصوب نحوك الآلي، مشهد التمثيل بجثث شهداء الشرطة في قسم كرداسة يذكرني بأعظم لوحة عبرت عن مأساة الحرب الاهلية، أعني »الجرنيكا« لبيكاسو، تصف اللوحة هجوما للقوات الفاشية الاسبانية علي قرية صغيرة وابادتها، تماما كما فعل الارهاب الاخواني اثناء الاعتصام الذي يراه الغرب المتحضر الآن سلميا، قمة التزوير وقلب الضمير إلي حيث يتبع الهوي، قتلة الاخوان فوق كوبري الخامس عشر من مايو يصوبون الآلي إلي النوافذ المفتوحة في البيوت التي عاشت السنين آمنة، ربما أسرة تتناول غذاءها البسيط أو شاي العصر، يسقط أفرادها برصاص مصريين آخرين، بعضهم مدفوع والاخر مغيب والثالث مضلل، ما أفظع انقسام ابناء الشعب الواحد، في لوحة بيكاسو الخالدة التي أصبحت أثرا انسانيا خالدا في متحف الالدرادو في مدريد تحول الحرب الاهلية البشر إلي اشلاء يد في ناحية واخري في ناحية. في الجلسات العرفية التي تعقد للمصالحة بين المتخاصمين يكون السؤال الاول من كبير القوم: من بدأ؟، ومن هنا تبدأ الادانة، الاخوان لم يحترموا ثورة الشعب المصري وتوقه إلي التحرر، الجيش استجاب لشعبه ولإرادته، لكن الإخوان ارادوها ارضا محروقة، وانني لاعجب من ردود فعل الغرب تجاه حرق اقدم واجمل كنائس العالم بواسطة ميلشيات الاخوان، بعد هذا الهول الذي عشناه يخرج علينا من يدعو إلي المصالحة، لن اتحدث عن المضللين، ولكن كيف يمكن الجلوس مع من خطط ونظم ونفذ عمليات القتل، إن اقتحام مركز شرطة كرداسة من المشاهد المرعبة في تاريخ مصر الحديث. كذلك ضحايا سيناء، مصر مستهدفة الآن من قوي محلية وعربية وعالمية، مصر في خطر حقيقي، الجيش ملاذنا، ولا نجاة للشعب الا بقربه من الجيش، كلاهما سينقذان مهد الحضارة وجوهر الانسانية كما يردد القائد العام السيسي للجيش بصدق : »مصر أم الدنيا وحتبقي قد الدنيا«. صفارة الخطر في الحروب الاهلية لا توجد صفارة الانذار، أو الخطر كما كنا نعرفها في حروب القرن الماضي، استعيدها منذ بداية ارهاب الشعب المصري، ترتبط بالمذياع، يبقي أول مذياع عرفته في ذاكرتي، بين أقدم الصور التي تعود إلي عام ثمانية واربعين وتسعمائة وألف من القرن الماضي، أي تمت كلها إلي حقبة حرب فلسطن. كان لي من العمر ثلاث سنوات وقتئذ، وكانت القاهرة تتعرض احيانا لغارات الطيران الاسرائيلي الذي كان ناشئا مازال، وكانت العاصمة قد عرفت غارات الطيران العنيفة التي شنتها قوات المحور خلال الحرب العالمية الثانية، غير ان هذه الغارات لم تترك أي أثر في ذاكرتي لسبب بسيط، ان ذاكرتي لم تكن قد بدأت التدوين بعد، إذ خرجت إلي العالم يوم التاسع من مايو عام خمسة وأربعين، وتسعمائة وألف، أي اليوم التالي لاستسلام ألمانيا وانتهاء الحرب في اوروبا، ما بين يوم مولدي أي انتهاء الحرب العالمية الثانية، واحداث حرب عام ثمانية واربعين لا اذكر شيئا علي الاطلاق، كأن هذه الاعوام الثلاثة منطقة معتمة خلت من الاحداث والذكريات، كأنه فيلم خفي احترق القسم الاول منه ولم يتبق منه أي لقطة، غير انني اري بوضوح تلك اللحظات التي بقيت معي، والتي اعتبرها الاقدم، المذياع يحتل ركنا منها، كذلك البي بي سي، أي محطة الاذاعة البريطانية التي كانت محترمة وقتئذ ولم تعد كذلك الآن. كنا نسكن الطابق الخامس من بناية تعد مرتفعة نسبيا بمقاييس الوقت في حارة الطبلاوي، المتفرعة من شارع قصر الشوق، لذلك ترتبط سماء القاهرة بذاكرتي في جميع أويقاتها، نهارا وليلا، خاصة زمن الحرب، في البدء تنطلق صفارات الانذار التي اصغيت إليها عبر الاربعين عاما التالية لذلك الوقت مرارا، صفارات تثير الرهبة والتوقع، المتقطعة تعني اقتراب الخطر، وضرورة بدء التزام الحذر، من اطفاء اضواء، ونزول سكان الطوابق العليا إلي المخابئ، وتوقف حركة السيارات التي كانت قليلة وقتئذ، مع طلاء النوافذ باللون الازرق، إذ كان يقال ان الطيار المعادي لا يمكنه رؤية أضواء النوافذ باللون الازرق، بعد انتهاء الغارة تنطلق الصفارات بدون تقطع، يعني ذلك الأمان، وإضاءة النور، وعودة الحياة إلي طبيعتها، بدء لحظات الخطر يبقي في الذاكرة اكثر، عند انطلاق الصفارة المتقطعة، يطلب الوالد منا ان نرتدي ملابسنا، وان نستعد للنزول إلي الطابق الاول حيث يستضيف الحاج أحمد عمر التاجر، ابن طهطا القريبة من جهينة بلدتنا ومسقط رأسي، نخرج إلي السطح الممتد المؤدي إلي الدرج النازل. سماء القاهرة مظلمة، النجوم غزيرة جدا، قريبة من الارض، كانت سماء ذلك الوقت اكثر شفافية لعدم ظهور التلوث الناتج عن ملايين العربات التي تعبر شوارع المدنية الآن، والأفق المفتوح الذي لم تكن تحده ناطحات السحاب بعد، كانت رؤية الاهرام واضحة جلية ممكنة من الجمالية، في جميع اوقات النهار خاصة عند الغروب. كان ومازال مشهد غروب الشمس خاصة في الشتاء من اجمل المشاهد التي تجد لها موقعا متميزا في ذاكرتي، في ليالي الغارات تلك كانت اذرع طويلة من الضوء تجوب السماء، وكنا نسميها عامود النور، لم تكن الحرب الجوية قد تطورت بعد وأصبحت كتلك التي قدر لي أن أراها فيما بعد علي جبهة القناة خلال حربي الاستنزاف واكتوبر، حيث تلعب الاجهزة الالكترونية المتطورة الدور الرئيسي، وتصبح الطائرات الحقيقية بكل ما تحمله من آلات دمار، وبشر يقودونها مجرد فقط ضوء صغيرة علي شاشات الرادار، سواد علي رادار الطائرة في مقصورة الطيار أو داخل غرفة عمليات الصواريخ المضادة فوق الارض، المقاتلون لا يرون بعضهم، ولا يلتقون وجها لوجه. كل منهم عبارة عن رموز فوق شاشة صغيرة بالنسبة للاخر، والحرب تدور من اجل اختفاء تلك النقطة البيضاء من فوق الشاشة ذلك يعني أفناء انسان أو أكثر! ثمانية واربعين في عام ثمانية واربعين كانت الوسائل اكثر بدائية، فالطائرات أبطأ، وارتفاعاتها اكثر انخفاضا، كذلك كانت وسائل الدفاع الجوي، بطاريات المدفعية بجوارها المصابيح الكاشفة، يطلق كل منها حزمة من الضوء صوب سماء المدينة، ويتحرك المصباح الكاشف بحثا عن الهدف في السماء المظلمة، حتي اذا ادركه، وظهرت الطائرة مثل ذبابة صغيرة خلال الاشعة القوية، تقترب بسرعة اضواء المصابيح الاخري لتحكم الحصار حول الهدف، تنطلق عندئذ المدفعية المضادة التي تدفع الطيار إلي منطقة بعيدة عن المناطق المأهولة، عندئذ يمكن تسديد الطلقة القاتلة، بالطبع عرفت هذا كله فيما بعد، خاصة عندما قدر لي ان اعمل مراسلا حربيا، ولكن تلك الغارات الليلية المرتبطة بالصور الاولي في الذاكرة، كانت تمتزج عندي بالاسطورة، قاعدة الضوء التي تصل الارض بالسماء كالمردة العمالقة الذين اسمع عنهم في حكايات جدتي وامي، لم اكن اشعر بالخوف، يكفي الاحساس بالقرب من الوالد والوالدة، في وجودي قربهم الامان كله. المخبأ نفارق السطح، وننزل السلم بحذر في الظلام، نصل إلي الطابق الاول، الذي كنا نطلق عليه السلاملك، انه نفس المصطلح الذي نجده في البيوت المملوكية والعثمانية القديمة التي منها بيت السحيمي القائم حتي الآن، وبيت السناري، وبيت جمال الدين الذهبي وقصر المسافر خانة التي قدر لنا ان نشهد دمارها بالحريق منذ ثلاثة اعوام للاسف، السلاملك اي الطابق الارضي الذي يمكن للرجال ان يجتمعوا فيه بصاحب البيت، وحيث يدخل الباعة لاحضار البضائع، اما الطابق الثاني فيطلق عليه »الحرملك«، أي المكان المحرم علي الغرباء، فهنا يعيش الحريم، مع اختفاء البيوت التي كان يسكن كل منها عائلة بمفردها، وحلول المباني المكونة من عدة طوابق، في طابق اسرة أو أكثر، لم يتغير اسم الطابق الارضي، ظل السلاملك، في البيت رقم واحد، حارة الطبلاوي، كان يسكن الحاج أحمد عمر، وإليه كان يأوي سكان البيت كله، الباب مفتوح، نعبر العتبة بحذر، ثمة شعشاع نبعث من مصباح يضاء بالغاز ، مطلي باللون الازرق، تمضي امي إلي الحجرة الداخلية حيث النساء، تحمل إلي صدرها شقيقي اسماعيل الذي اذكره طفلا رضيعا، كان ممتلئا، ابيض البشرة، وكانت امي تلفه في ثياب قاتمة دائما لتحميه من الحسد، من العين الشريرة، أما أنا فلا أفارق يد أبي، امضي معه إلي حيث الرجال في غرفة الجلوس، أو كما يسميها البعض غرفة الضيوف، أو »الصالون« ، رجال البيت واولادهم يجلسون إلي المقاعد، وكنبة مستطيلة، البعض يجلس إلي الارض، النافذة مغلقة، المصراعان لمصنوعان من الخشب »الشيش«، والزجاجيان الداخليان ثمة ورق ازرق شفاف ملصق علي الزجاج، في منتصف الحجرة فوق المنضدة مذياع كبير الحجم، صندوق من الخشب بني اللون، نصف واجهته الامامية من زجاج، كتب عليه اسماء المحطات بالعربية فوق عدة سطور، كذلك اطوال الموجات المتوسطة والقصيرة، اذكر مفاتيح هذا المذياع جيدا، ولوحة الموجات، وهيئته، اذ كان أول مذياع اراه في حياتي، والبدايات دائما لا تنسي، لم يكن لكل اسرة مذياع في ذلك الوقت، في البيت الذي نسكنه والمكون من خمسة طوابق، كان يوجد جهازان لدي اسرتين، الاول عند الحاج أحمد عمر، والثاني عند جارتنا التي تقيم تحتنا مباشرة، وكانت سيدة قوية البأس، دائمة الشجار، تحرص أمي علي تجنبها، ولم يكن لدينا جهاز مذياع، فلم تكن امكانيات الوالد تسمح باقتنائه في ذلك الوقت، كان ذلك الجهاز صندوقا سحريا بالنسبة لي، وكانت اللوحة الامامية تضاء بمصباح جد صغير، يرسل ضوءا خافتا لانارة اسماء المحطات ولرؤية المؤشر اثناء تحركه، وبرغم وهن الضوء كان يبدو قويا داخل الحجرة لان الفراغ كله معتم، الآن بعد انقضاء اربع وخمسين سنة اري ملامح الوجوه كأنها امامي، الحاج أحمد عمر مضيفنا بملابسه البلدية وطربوشه الاحمر الذي لم يكن يتخلي عنه حتي داخل بيته، وحسن افندي بقامته النحيلة، ونظرته الطيبة، كان ذا قامة نموذجية للموظف المصري، وفيما بعد كنت اتذكره كلما تطلعت إلي الفنان شفيق نور الدين فوق خشبة المسرح، وكان بصحبت ولديه، صلاح الذي يقربني عمرا، وسامي الاصغر، غير انني كنت انظر إليهما خفية ولا اقترب منهما، كنت أميل إلي الانطواء، أرغب في تفحص الاخرين خفية، إلي جواره الباشجاويش أحمد الهجرسي، كان ذا قامة ضخمة وشارب كثيف، أنه رجل شرطة، أراه الآن في ردائه الرسمي، حول خصره حزام جلدي عريض يتدلي منه عصا قصيرة كانت كل ما يتزود به رجل البوليس من سلاح في ذلك الوقت، لكن مجرد ارتدائه الحلة الرسمية »الميري« وظهوره في الطريق يثير الرهبة ويفرض النظام، كان للباشجاويش أحمد الهجرسي وضع خاصة، فله ابنان يحاربان الآن في فلسطين، شعراوي وشقيقه شافعي، كلاهما تطوعا لمحاربة العصابات الصهيونية، في إحدي الليالي تحدث الباشجاويش الهجرسي عن مصفحات حديثة وصلت الي اليهود، كل منها يشبه التمساح، كنت أصغي مبهورا إلي ما يرويه الحاضرون حول الحرب وأحداثها، وعند لحظة معينة يتقدم الحاج أحمد عمر من المذياع، يدير المؤشر. »أخبار لندن بقي عليها دقيقة....« وعندما يبدأ المذيع الذي كان يطلق عليه والدي »الاخنف« تحية المستمعين وقراءة موجز النشرة، اتخيل رجلا صغيرا يجلس داخل هذا الصندوق ويتلو علي الجالسين بنظام وترتيب أخبار الدنيا وأهمها طبعا أخبار الحرب الدائرة في فلسطين والتي كنا بشكل ما طرفا فيها، في الاعالي ثمة هلاك يحوم لا نعرف مكانه، وفي الارض رجال يحاولون ابطال مفعوله، وعندما تنتهي النشرة، يعود الحاضرون إلي تبادل الحديث حتي تنطلق صفارة الأمان المتصلة، يضاء النور، وننصرف علي مهل، وبصري عالق بالصندوق السحري، المذياع. الآن لا يوجد مع الارهاب صفارة انذار، ولا صفارة أمان، الأمان الوحيد هو في وحدة الشعب مع الجيش.