أثار مقالي السابق عن «قنا القديمة.. مجرد ذكريات» ردود أفعال واسعة مرحبة بما كتبته من أبناء قنا الكرام، البعض من أصدقاء الدراسة والبعض الآخر من الأقارب وجيران الطفولة في شارع الحلوي والبعض الثالث لا أعرفه ولكنه من قنا ويعيش الآن في القاهرة أو الإسكندرية، كلهم تواصلوا معي هاتفيا أو عبر الإيميل ويريدون كتابة المزيد من ملامح قنا القديمة في الماضي، وكيف كانت، والحياة الاجتماعية في سنوات الستينيات. والحقيقة ان الدافع الأساسي لكتابتي عن قنا القديمة بخلاف عشقي لها، هو اختفاء ملامحها القديمة أو كادت، خصوصا منطقة الأطراف من شارع الشنهورية وشارع الجميل وميدان المحطة وميدان الجبلاوي والسوق التحتاني الي قسم شرطة ومديرية أمن قنا.. هذه المنطقة الجغرافية الواسعة بمثابة خاصرة قنا القديمة، وقد احتفظت بعض البيوت بحلتها القديمة حتي الآن، ومازالت تقاوم عوادي الزمن، وأسفت لحفر البعض أسفل بيوتهم بحثا عن كنوز أو خبيئة، ساعد علي انتشار الظاهرة اكتشاف بعض العملات المعدنية فعلا أسفل بعض البيوت القديمة، ومن هنا انتقلت العدوي إلي الآخرين. وأعود إلي ذكرياتي في تلك الحقبة، وأتوقف عند شارع المصلبية.. قنا القديمة والحقيقة تجدها هناك.. عند درب المصلبية وسوق الفراخ وشارع الحدادين والسوق الفوقاني والسهريج حتي المحطة، وتعد هذه المنطقة أصل قنا، ومنها امتدت التوسعات تدريجيا حتي أصبحت قنا مدينة مترامية الأطراف، ومن أشهر مساجد قنا القديمة، مسجد المغربي وسيدي عمر وأبو الحسن وسعودي والحلوي والسوق الفوقاني، وبالنسبة للكنائس كانت هناك كنيسة كبيرة في شارع يسمي باسمها، والطريف أنني التحقت في الحضانة بمدرسة الرهبات الفرنسيسكان المجاورة للكنيسة. أين عم سيد بائع العسل الأسود والطحينة الذي كان يمنحنا نحن الأطفال قراطيس عسل مجانية في الجيئة والذهاب؟ عندما علمت برحيله وجمعت، وانتابني قلق حقيقي وحزن دفين علي وفاته، الشيء الذي هدأ خاطري ان محل العسل الأسود يديره نجل الحاج سيد، وفي قنا القديمة كان الحنطور هو وسيلة المواصلات الوحيدة تقريبا مع بضع سيارات هنا وهناك، والماء كان يوزعه حسن السقا علي البيوت، عندما تشاهده تتذكر فيلم السقا مات، وكانت الكهرباء موجودة علي حياء في بعض المنازل، وباقي البيوت تعيش علي أنضة - لمبة - الجاز، وكان وابور الجاز هو القاسم المشترك بين الأهالي قبل وصول البوتاجاز إلي قنا، بيوت قليلة كانت تعيش علي الكانون - حجران من الطوب اللبن ووسطهما النار - واكتشفت بالصدفة أن أجمل شاي تشربه في حياتك هو المغلي فوق الكانون، الثلاجة كانت أفضل تعبير عن الرفاهية وكانت قليلة جدا فور ظهورها في الستينيات، أما المذياع فكان منتشرا علي نطاق واسع خصوصا المذياع الخشبي، وأذكر ان صديقي الدكتور أسامة إدريس قال لي ان جده أول من اشتري مذياعا في قنا في أواخر الثلاثينيات، وكان الناس يقفون بجوار شباك منزله في السوق الفوقاني للاستماع إليه، وبالنسبة للسينما كانت هناك دار سينما وحيدة في ميدان الجبلاوي، وأذكر أنني شاهدت فيها رائعة محفوظ «ميرامار»، وعندما اشترينا التليفزيون في نهاية الستينيات، كان ذلك أكبر انقلاب في حياتي، وأذكر أن بيتنا امتلأ بالجيران حتي لم تكن تجد موطئا لقدم يوم رحيل الزعيم عبدالناصر لمشاهدة القائد الذي أبكانا جميعا، حتي ان مجلة لوموند كتبت ان «100 مليون عربي فقدوا آباهم». في قنا القديمة.. كان الفقر مدقعا بشكل عام، وكنا والحمد لله من أسرة متوسطة، ولكني شاهدت الفقر والحرمان لي عيون الكثير من الأطفال الذين كانوا لا يجدون العشاء في معظم الأحيان، وكانت وجبتهم الأساسية هي العيش بدقة أو الشلولو - ملوخية بالماء البارد والملح - والجلاب المصنوع من قصب السكر وأحيانا كانت أماتهم يغلين لهم الماء علي وابور الجاز حتي يدركهم التعب ويناموا في انتظار طعام لن يجىء. عشقت القراءة مبكرا، ساعدني علي ذلك تشجيع الأسرة خصوصا والدي الراحل وأمي الغالية، كنت اشتري جميع مجلات الأطفال في تلك الفترة من عم سعد بائع الصحف المتجول أو من عوكل أشهر بائع للصحف في قنا، ولحبي للقراءة كنت أنتظر القطار علي المحطة لشراء مجلات «سوبرمان» و«سمير» و«ميكي» قبل نفاذها، وفي التاسعة من عمري اكتشفت مجلة العربي الكويتية، فتحول حبي للقراءة الي عشق دائم لا ينتهي ولم أكن اتصور انني كنت أبحث عن مستقبلي. وسائل الترفيه في قنا القديمة للأطفال والصغار كانت محدودة، وتكاد تقتصر علي الزود - قطعة خشبية مستطيلة صغيرة مسننة من الطرفين ونضرب طرفها بالعصا إلي أبعد مسافة ممكنة - وكنا ونحن أطفال نلعب السيجة والكرة الشراب أو نتباري في دقة النيشان بواسطة أغطية زجاجات الكوكاكولا التي كنا نسميها «حقاق»، وكان صاحب الدراب الرصاص بتشديد الراء - يسمي الحق - بضم الحاء وتسكين القاف، هو الأسعد حظا بين أقرانه لانه الفائز حتما، لم نكن نعرف الأتاري أو الكمبيوتر أو المفتش كرومبو، وبالنسبة للحلويات.. كانت المهلبية والأرز باللبن والحلاوة الطحنية والخبز البلدي الساخن بالسكر والسمنة هي أقصي أمانينا، وكنا ننتظر سباق الخيل - المرماح - علي أنغام الطبل والمزامير بأحر من الجمر في المناسبات والأعياد خصوصا في مولد سيدي عبدالرحيم القنائي، أكبر احتفالات قنا الدينية، وفيه كان يخرج النقيب راكبا حصانة الأحمر الداكن ومتشحا بالشال الأخضر - لباس أهل الجنة - محييا رواد المولد من بيته في درب النقيب مرورا بالسهريج إلي المحطة الي مسجد سيد عبدالرحيم القناوي، وطوال الطريق كانت الألعاب النارية والموسيقي العسكرية تضفي علي الاحتفالية بهاء وجمالا. كان لدي صديق بالمدرسة شرس الطباع.. عرفت بالصدفة أنه فلسطيني من غزة اسمه مروان، كان يتشاجر مع طوب الأرض.. أين هو الآن؟ هل استشهد أم عاد إلي غزة، أم رحل إلي الخارج؟ أم بقي في مصر في محافظة أخري؟ لا أدري، اسو شيء عكر صفو ذاكرتي في مرحلة الطفولة في قنا القديمة، حرب 1967 يونيو والغارات الإسرائيلية علي قنا وضرب كوبري دندرة ونجع حمادي، رأيت الطائرات الفانتوم الصفراء بأم عيني وأنا في السادسة من عمري تحوم في السماء علي مسافة قريبة، لقد انفطر قلبي رعبا من صوتها الرهيب الذي يصم الآذان، كانت الحرب شيئا مفزعا، وكنا نضطر كأطفال إلي الاختباء في المخابىء والملاجىء الأرضية خوفا من الموت، قبل نكسة يونيو بأيام قليلة كنت الهو في الشارع بالكرة ثم وجدت جارنا ضابط الجيش «كمال» يطلب مني في أدب عدم ازعاج الجيران وقت الظهيرة، وسافر الي الجبهة واستشهد، عرفت فاجعة رحيله من صراخ أمه عليه الذي كان أقرب إلي الجنون من البكاء والنحيب، وقد ولدت تلك الفترة داخلي مرارة لا تنسي ناحية إسرائيل. تلك مشاهد من قنا القديمة الباقية، ومازالت حتي اللحظة أحرص علي زيارة معالمها أنا وصديق العمر عماد عاشور، وكثيرا ما ذهبنا سويا نفتش في دروبها وعندما أذهب إلي منزل الطفولة الذي عشت فيه أحلي سني عمري في شارع الحلوي وانطلق للرحيل، ألوح بيدي مودعا إلي طلعت الصغير الذي خرج.. ولم يعد!