حبر علي ورق

ثلاث نساء

نتصور أحيانًا أن الدراما تصنع قصصًا من الخيال، أو أن الميلودراما تبالغ في ابتداع أبطال وأحداث تبتعد كثيرا عن الواقع. لكن ما رأيته وسمعته خلال زيارتي الأخيرة لسجن القناطر للنساء أكد لي أن الواقع أحيانا يفوق الخيال، وأن قصص الناس الحقيقيين تتجاوز بامتياز القصص الخيالية التي يخلقها خيال الكاتب .
حول ترابيزة خشبية مستطيلة رأيتهن يجلسن في أحد أركان فناء السجن الفسيح.مجموعة من النساء يرتدين ملابس السجن البيضاء.. ويبدو علي مظهرهن أنهن لا ينتمين إلي هذا العالم . عالم السجون بكل ما يحتويه من إثارة وغموض . أمامهن أوراق بيضاء وأقلام رصاص، وبعض الأقلام الخشبية الملونة. وقعت عيناي علي لوحات رسمنها في غربتهن هذه. هل وجدن في الرسم نوعا من التنفيس وتفريغ الشحنة ؟ هل شعرن أن حركة القلم علي الورق هي نوع من الإحساس بالحرية التي يفتقدنها وونيس يملأ فراغ أوقاتهن الطويلة جدا خلف القضبان ؟.. لقد قامت أقدمهن في السجن "م" الدكتورة بكلية الفنون الجميلة بتعليمهن الرسم، لكنها لم تكن فقط أستاذتهن في الفن بل في كيفية الخروج من حالة الذهول والاكتئاب الذي مرت هي به قبلهن ، واعتصرتها التجربة ثم خرجت من قوقعتها بصعوبة بعد مضي عامين كاملين. استطاعت أن تنتزع الدكتورة "ع" أستاذة الأدب الإنجليزي في الجامعة الأمريكية ، والدكتورة فاطمة وهديل وشذي.
ثلاث نساء مختلفات عن اللاتي ألتقي بهن في زياراتي التي أقوم خلالها بتوزيع الألبان والأغذية والأدوية الضرورية علي عنبر أمهات الأطفال .وألتقي بنساء أخريات زج بهن الفقر المدقع إلي ذلك المكان. إنها رسالتي وقضيتي التي وهبت لها وقتي وفكري منذ عشرين عاما من خلال جمعية رعاية أطفال السجينات. وهي الجمعية التي أشرف بأني مؤسستها .
أعود للنساء الثلاث اللاتي التقيتهن، حاصلات علي درجة الدكتوراه. حكاياتهن أغرب من الخيال . الأولي أوقعها الطموح الزائد والرغبة في الثراء في الفخ. الثانية ضحية لزوج جبان ، هرب بجلده وتركها تعاقب بدلا منه لأنها كانت الضامنة له في قروض بلغت قيمتها ثلاثة ملايين وعندما تعثر مشروعه، هرب بعدما خطف ابنها وأثاث بيتها فوجدت الدكتورة نفسها خلف القضبان .
الحكاية الثالثة صاحبتها دكتورة نفسية عاشت في إيطاليا 40 سنة وعادت إلي مصر لتقيم مشروعا بعدما تعبت من الغربة ولأنها لم تكن علي دراية بالسوق المصري وقعت في الفخ .. اللوحات التي رسمنها تجسد مأساتهن .أسد متوحش ينقض علي غزالة هزيلة .عيون تظهر خلف السحب ،كأنها تتفرج علي العالم عن بعد كلمات وعبارات تعني كم هي غالية الحرية وبدونها لا قيمة للحياة.