قانون الطبيعة حتم، قانون الحياة إختيار، وما بين الحتم والاختيار يعيش الإنسان. هكذا كتبت لك "في الفكر والسياسة" ذات مرة تحت عنوان " إفتح لمرآتك عيون" حيث قلت: قانون الطبيعة حتم لايعرف الاستثناء ولا المجاملة، وهو رغم تجدد الحياة إلا أنه ثابت قاطع لايتغير. فتعاقب الفصول حتم، ولا يمكن للشمس أن تشرق يوما من الغرب، ذلك أن بزوغها من الشرق حتم، وكذا تعاقب الليل والنهار حتم، "لاالشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون. يس 40 " الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان. الرحمن 5". هذا هو قانون الطبيعة الذي لايسمح للتفاحة إلا أن تسقط علي الأرض حيث الجاذبية وقوانين نيوتن التي لاتعرف التساهل أو الإستثناء. القانون في الطبيعة هو الأساس وليس للمصادفة دور أو إحتمال إلا في أذهان المكابرين الذين يدعون حكمة قانون المصادفة ويسمونه التصميم الذكي. قانون الطبيعة ليس كقانون المرور الذي يعرف المجاملة ويفرق بين الباشا والغفير ويجامل الوزير والكبير، قانون الطبيعة لا يعرف الواسطة والمجاملة ولا الالتواء والالتفاف والمصغرة، والإنسان أياً ما يكون خاضع لهذا القانون، الذي رغم وحدته وتماسكه إلا أنه مقسم الي أبواب حيث قوانين الفيزياء والكون وحركة الأجرام السماوية، والجاذبية، والمد والجذر وعلوم طبقات الأرض والكيمياء والذرة ومكوناتها ونظريات الكم والديناميكا الحرارية وعلوم البيولوجيا والاستنساخ والنسبية وغيرها. في قانون الطبيعة باب كبير عنوانه "علوم الوراثة " وقد اشتقت منه العلوم الحديثة مستجدات علمية مثل التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية، تلك التي أحدثت الإستنساخ ومفاهيمه الجديدة إلا أنها لم تخرج أبدا عن قانون الطبيعة وحتمه. وحتي في استنساخ النعجة دوللي في معهد روزالين بالمملكة البريطانية لم تعط تجربة "إيان ويلموت" من النعجة إلا نعجة، هي لم تنتج فيلاً أوزرافة أوغزالة أوقرد أوبقرة. إنه قانون الوراثة الذي يحدد لون الإنسان وطوله أوقصره ولون شعره وطبيعته ، ناعم أومجعد، وكذا لون العينين، ونوع الجنين ذكر أوأنثي. إذن من حيث الطبيعة والجسم والتكوين والشكل فالإنسان رهن للقانون، وهو مغلوب عليه من الطبيعة وحتمها الذي ليس فيه إختيار أو تجاوز أو مجازفة أو محاولة ولا مناص أو سبيل للهروب. أما شأنه في الحياة ومسيرته، ومهما كانت صعوبتها وتشعب دروبها فهي رهن لاختياره ومراده وعزمه وإرادته. إن شاء خيراً فهو خير وإن إختار شراً فهو شر. هكذا قانون الحياة إختيار. من جد وجد ومن طلب العلا سهر الليالي، أسألوا تعطوا، أطلبوا تجدوا واقرعوا يفتح لكم. في الحياة أنت الذي يختار، أن تكون متفوقا في دراستك فهذا رهن قدرتك علي فعل المذاكرة والتجويد والفهم والتحصيل والتدقيق ومحاسبة النفس والاستعداد للامتحان، تماماً كما هو اختيارك أن تكون في سبيل الله ملتزماً مؤدياً فروضك وواجباتك ومقدماً معها نوافلك واجتهادك وحسناتك، فهذا هو اختيارك. أن تكون سياسياً موالياً أومعارضاً فهذا اختيارك، وأن تجيد لعبة السياسة فتتسلح بالعلم والتجربة والخبرة والمعرفة أوتظل شخصا باهتا بلا روح أوهوية أومبادرة حتي لو صرت وزيراً، فهذا أيضا اختيارك، ولا تلومن إلا نفسك إذا خرجت من ملعب الحياة الكبير مهزوماً كل مرة لم تحقق هدفاً واحداً، فهذا نتاج عملك وسوء تقديرك وقلة حيلتك وعدم قدرتك علي تجاوز اختبارات الحياة والوجود. إذا أعجبك أن تكون دائماً في مقاعد المتفرجين فلا ينبغي لك أن تحلم يوما بدور البطولة في فيلم الحياة ومسرحية الوجود، وحسبك الفرجة ومصمصة الشفاة. إذا كان هذا ما تفعله الآن فأنظر حولك وحاسب نفسك وستجد أنك لم تسمع نداء الحياة ولم تنهض لديك همة علي العمل والفعل والمبادرة. إنه الإختيار. ومن أسف أننا لانحسن الاختيار ثم" نلوم زماننا و العيب فينا وما لزماننا عيب سوانا". العيب عيبك، فأنت الذي أغلقت أذنك عن السمع وعينك عن البصر وعقلك عن الرؤية والتفكر ونفسك عن التدبر وإرادتك عن الإحتمال والعناد و"المعافرة". باختيارك أنت الذي تحدد قيمتك، فكلما ارتفع سقف طموحك وثقافتك كلما حققت في مسيرتك أشياءً تعتز بها، فلا تحسبن حياتك هي منذ ولدت إلي يوم وفاتك، يمكنك أن تجعلها أطول وأثمن وأقيم وأحسن، وهو إختيارك لأن تعطي حياتك عمقاً وبعداً جديداً، إقرأ حاول تعلم، تفاعل إشتغل ونظم وقتك واسأل نفسك ماذا أضفت إلي نفسك اليوم وماذا أضفت إلي عملك ومستقبلك ومجتمعك وأسرتك ووطنك؟. ماذا قرأت مؤخراً وأي فيلم شاهدت وأي مسرحية أثرت فيك وأي "كونسير" في الأوبرا أعاد صياغة مشاعرك من جديد وأي ندوة سياسية أوعلمية شاركت فيها، أي جريدة تحرص علي قراءتها وأي قضية عامة شاركت فيها برأي أوفكر أوعمل؟ إذا كانت لكل هذه الأسئلة إجابات عندك فأنت بالفعل إنسان تستحق أن تعيش وأن تكون. أما إذا لم تكن لديك إجابات واضحة فأنت الذي اخترت أن تكون واحداً من كثيرين لا يميزهم في سلم النشوء والإرتقاء والتطور كما عند "دارون" إلا مظاهر العيش من حيث الأكل والشرب والإخراج والتنفس والتزاوج والفناء بلا قيمة مضافة للحياة والكون والفكر والمجتمع والناس. عندها لن يتوقف عندك أحد، ولن يعيرك أحدهم إهتمامه، وعندها لايحق لك أن تفتي في شئون الدنيا أوتعارض أوتطلب من المجتمع والحكومة إحترامك. إن إحترامك بماتقدمه وماتفعله وماتتركه من أثر. وليس في ذلك محاولة للاستعلاء علي البسطاء والعامة من الناس، أولئك الذين لم يحصلوا قسطاً من التعليم لظروف قهرتهم، لكنهم أيضا مصنفون حسبما هم يؤدون. فمنهم الصانع الماهر والحرفي الدقيق والمهني المقتدر وهم في كل الاحوال يتركون أثراً إيجابياً بأعمالهم يقدره المجتمع ويحترمهم من أجله. أما إذا كانوا من ذوي التفاهة والسطحية فلا يلومن إلاأنفسهم إذا غربت عنهم الشمس وزاورت عنهم الأيام. العبرة ليست في وظيفتك أومهنتك وطبيعة عملك، بل في الكيفية التي تؤديه بها، صحيحاً كان أوغير صحيح هذا هو المعيار وهذا هو مؤشر الاختيار، وفي كل الأحوال فلا يزال الباب مفتوحاً أمامك ويمكنك دائماً أن تحاول وأن تبدأ وأن تسأل وأن تتعلم. وهكذا أحسبني قد أجبت علي كثير من تساؤلات القراء ورسائلهم، وليعذرني الجميع فما تعودت أن أهمل رسالة وأرد بنفسي علي كل رسالة عبر البريد الإلكتروني، لكني أعترف بالتقصير في حق البعض ممن لم أكاتبهم بعد فالرسائل كثيرة جداً والوقت سيف قاطع والأيام ملأي بكثير من المستجدات يصعب معها ملاحقة كل شئ، وأنت مهما كانت طاقتك، محدودة أمام الوقت وتجاوزات البعض وسخافات الآخرين ومفاجآت بعض المسئولين ممن تخصصوا في التآمر والتلاعب والتجاوز والإنحراف بالسلطة. ولتلميذي المغدور الذي سبق وحذرته ألايبيع نفسه للشيطان، طمعاً في سلطان وقتي زائف، أقول له: ليس الأمر بالمنصب يابني فلاتلبس ثوباً أكبر منك فيسخر منك الجميع ويخدعك من جعلته سيدك بالباطل، وأحسبك اليوم أنت الخاسر وحدك، ولعلك قد عرفت الفارق، وعليك أن تتعلم الدرس وأن يكون طموحك وفقاً لقدراتك، وأن يكون رهانك علي ذاتك، فلن يصنع قدرك وسيرتك إلا عملك وعطاؤك، وتمثل ماقاله الإمام الشافعي: كم مات قوم وما ماتت مكارمهم، وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ، أوكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي: الناس صنفان .. موتي في حياتهم .. وآخرون ببطن الأرض أحياء.