مساء الجمعة الماضي بث التليفزيون المصري برنامجا عن الراحل الدكتور رشدي سعيد مؤسس علم الجيولوجيا في مصر، المفكر، السياسي وأحد الرموز المصرية في القرن العشرين. بدا البرنامج غريبا في اطار ما يقدمه التليفزيون الرسمي، مستواه الرفيع ومضمونه يذكرني بالبرامج المتقنة في تليفزيونات العالم المتقدم، الحوار لا يجري في استوديو مغلق بشأن معظم البرامج الآن. انما في مواقع مختلفة لها صلة بالشخصية، ومن خلالها تبرز قسماته ورحلة حياته، ولانه تخصص في نهر النيل لمدة سبعة عشر عاما قضاها في الترحال الدائم من المنبع إلي المصب، متحسسا قاع النهر وضفافه ليتعرف علي اسراره. خرج بعدها بمؤلفه المرجعي »نهر النيل« والذي طبعه الراحل مصطفي نبيل في دار الهلال، لم أعد دهشا من مستوي البرنامج عندما علمت انه انتج منذ عشر سنوات. اعدته وقدمته الاعلامية القديرة الدكتورة اميمة كامل، رشدي سعيد من جيل الليبراليين العظام الذي تكون وعيه من خلال الروح التي سادت بعد ثورة 1919، ويمكن اعتباره تلميذا مبشرا لسلامة موسي. الذي اقترح عليه دراسة الجيولوجيا وبالتحديد الحفريات لدعم نظرية التطور التي كان المفكر الكبير مبهورا بها، مشغولا بشرحها للناس، تخرج رشدي سعيد من القسم وسافر إلي الولاياتالمتحدة، ليدرس الدكتوراه في جامعة هارفارد، كان مرتبطا جدا بجامعة القاهرة وبدا متأثرا خلال حديثه من امام معهد الجيولوجيا الذي كان يزوره لاول مرة، هو الذي كان بمفرده في نهاية العشرينات، أنجز رشدي سعيد كتابا هاما بالانجليزية »جيولوجية مصر« ويعتبر المرجع الوحيد حتي الآن وأتمني ترجمته، عرفته من خلال استاذي محمد عودة الذي كان يعتبره مدرسة في الوطنية. ولكم حاورته، كان بسيطا. ودودا، له ابتسامة طفل رغم تقدمه في العمر، قادر علي شرح اعقد الافكار ببساطة، اكتشف جبل الفوسفات في ابوطرطور عام 1969 ورغم ما انفق عليه لاستثماره الا أن عناصر الفساد كانت أقوي، توقف المشروع وقد آلمه هذا كثيرا، رغم تخصصه العلمي الدقيق الا انه كان مثقفا كبيرا، ملما بروح مصر وجوهرها، لقد تخصص في الجسد المصري، الارض التي تكونت منها الحضارة المصرية، ما اعرفه انه كان علي علاقة خاصة بالرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان يقدره كثيرا، ولكن الرئيس السادات اعتقله في حملة سبتمبر الشهيرة، خرج العالم العظيم من السجن وسافر إلي الولاياتالمتحدة حيث اقام مع ابنته الا انه لم ينقطع عن زيارة مصر وكان ناقدا لمشروع توشكي وقد اثبتت الايام صحة رأيه، التقيت به في مصر وفي واشنطن، وكنت أكن له احتراما ومودة عميقة، ومن خلال هذا البرنامج الراقي كنت أستمع إليه وكأنه يحدثني، شكرا للإعلامية الدكتورة أميمة كامل، وتحية لتلك الايام البعيدة التي كانت تسمح بظهور مثل هذه البرامج رفيعة المستوي.