خرج رشدي سعيد من رحم الواقع السياسي الاجتماعي الذي شكلته الحركة القومية المصرية التي بدأت خافتة في أواخر القرن التاسع عشر، وأصبحت ركيزة الحركة الوطنية ومحركها الأساسي في قيام ثورة 1919، وهي الثورة التي جعلت المصريين يستمدون هويتهم من الانتماء إلي الوطن، وفي دعم الجماعة الوطنية. فتحت سيدة إنجليزية عينيي"رشدي سعيد" لما رأت الملامح المشتركة بينه وبين تمثال فرعوني معروض في المتحف، دفعه هذا إلي البحث عن جذوره، الشيء الوحيد الذي أتاح له معرفته، هو مسقط رأس العائلة في صعيد مصر، وفتح له باباً صغيراً للمعرفة، كان مسقط جده في بلدة "السراقنة" وهي بلدة صغيرة محمية في حضن "الدير المحرق". مناخ الثورة ربما يكون أهم العوامل التي ساهمت في تكون هذا المنتمي الوطني"رشدي سعيد" هو المناخ الذي صنعته ثورة 1919، التي أتت بدستور1923، الذي أرسي لمباديء جديدة علي أساس من المواطنة، وأعادت هذه الثورة الثقة للمصريين، وهناك شخصيات تركت بصمة في تكوين "رشدي سعيد" في الجامعة والحياة العامة منهم "سلامة موسي"ومناخ الجامعة المصرية في ذلك الوقت، التي كانت تعده أستاذا بها ورشحته لبعثة علمية في أفضل جامعات العالم، علي حد قول أستاذه"مصطفي مشرفة"حيث كانوا يريدون للجامعة المصرية الا يقل مستواها عن أي جامعة في العالم. رغم الإعداد الطويل ل "رشدي سعيد" علمياً ومعرفيا أثر هذا في تعقيد حياته العلمية في الجامعة، لم يجدها سهلة أو ممهدة، كان وصوله إلي الجامعة وله كمّ من الإنتاج العلمي المتميز صدمة للكثيرين، لمن لم يخبر طريق البحث العلمي، سبب له كثيرا من المضايقات، كانت عودته إلي الجامعة في هذا المناخ تؤدي إلي تبديد طاقته وتعطل العمل الجاد الذي عزم السير في مساره، بعد أن ترك عمله، استاذا في اعظم جامعات أمريكا وباحثا في معاهد" عالم المحيطات حول العالم"، وعاد الي مصر، وهو يحلم بالجامعة وبناء قسم الجيولوجيا علي مستوي رفيع، يكون ندا لأعرق جامعات العالم .لذلك آثر "رشدي"الابتعاد عن هذا المناخ، واكتفي بمكان صغير، حاول فيه بناء جيل من الباحثين والجيولوجيين، ويكون هذا المكان أوسع أفقا وأكثر دراية بالعالم، وسعي جاهدا لمد الجسور مع الهيئات العلمية، والمحلية والعالمية وشركات البترول وهيئة الأبحاث الجيولوجية لتسهيل رحلات الطلاب في الصحراء والتزود بالعينات والبيانات والعمل علي بناء مكتبة متخصصة وتزويدها بأحدث المطبوعات والدوريات العلمية. تعريب المناهج شارك "رشدي سعيد" في تعريب منهج تدريس العلوم في كلية العلوم، بالاشتراك مع نخبة من كبار العلماء من عدة أقسام علمية مختلفة. جاء ترشيح د"عزيزصدقي" وزيرالصناعة والباني لمنظومة المصانع العملاقة بما يسمي القطاع العام في ستينات القرن العشرين، ليكون "رشدي سعيد" رئيسا لمؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية .وكان يستعد للسفرالي خارج البلاد، وانطلق"رشدي"إلي رحاب أوسع في العمل الميداني الجاد في أنحاء مصرالتي كانت مثخنة بجراح نكسة 1967، وحاول بناء مؤسسة علمية لايجاد مصادر جديدة وخامات أولية يمكن أن تنشأ عنها شركات تعدينية كبيرة علي أسس سليمة وقواعد راسخة، بدأ في بناء هيئة عالية المستوي لدراسة جيولوجية مصر، والكشف عن ثرواتها المعدنية واختيار الصالح للاستخراج الاقتصادي، محاولا إيجاد بدائل للمناجم التي فقدتها مصر بعد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، وعمل "سعيد" جاهدا لبناء شركات المؤسسة التي كانت منهارة وإعادة كوادرها التنظيمية والإدارية لتصبح مؤسسة قادرة علي تنفيذ البرنامج الطموح للبحث عن المعادن في الصحراء، وتقديم الخدمات اللازمة في مجال الصناعة . من أهم المشروعات التي نفذها: بناء منجم "كارولين كلابشة" علي أسس علمية سليمة بواسطة خبرة مصرية خالصة، ثم مشروع فوسفات "أبو طرطور"في الواحات الخارجة، حيث وضع تصوراً كبيراً لبناء منجم ينقل صناعة التعدين الي مستوي العصر وينقل العمران الي الصحراء. المهم المصري معظم الدراسات التي قام بها "رشدي سعيد" والمقالات التي كتبها ونشرها مشغولة بالهّم والوجع المصري، أعماله تمثل رؤية استراتيجية للواقع والمستقبل، ومن أجل الاستغلال الأمثل للامكانيات والموارد الطبيعية الموجودة في مصر، مثل مشاكل المياه والتعدين، ونزيف الهجرة المصرية، ونظرة علي مشكلة التزايد السكاني في مصر، كان الرجل ينادي ولا يزال بضرورة رسم خريطة جديدة لمصر، وكان من أوائل الذين أطلقوا صيحة أن مستقبل مصر الحقيقي في تعمير الصحراء، وأول من توقع حدوث أزمة في مياه الشرب في مصر، منذ عقد كامل تقريبا، ، معظم ابحاثه تتركز حول مستقبل مصر الاقتصادي وهو زراعة الصحراء والاستفادة القصوي من المياه الجوفية، وكان يري أن مستقبل مصر هو الخروج من الوادي الضيق الي الصحراء، ضرب هو نفسه مثالا، حين اشتري قطعة أرض صحراوية مستصلحة في الواحات وأقام عليها بيته ومزرعته. ولد"رشدي سعيد" عام 1920 وتخرج في كلية العلوم عام 1941، وبدأ حياته العلمية بشركة القصير للفوسفات، وفيها تفتحت عيناه علي حقائق الواقع وعلي حقيقة مأساة المصري وغربته داخل وطنه، كان عمال التراحيل الذين جلبوا من الصعيد هم عصب العمل في المناجم، كانوا يعملون في ظروف شاقة وقاسية، دون أي حقوق، وكان الشعب المصري في ذلك الوقت مقهورا ومعصورا بين واد ضيق لايستطيع الخروج منه، وأرض زراعية مملوكة لعائلات محدودة. سفينة متهالكة سافر "رشدي سعيد" الي بعثة في سويسرا بعد ستة أسابيع من انتهاء الحرب العالمية، مقلا سفينة متهالكة أقلته من بور سعيد، وكانت تقل جنودا فرنسيين وسنغاليين في طريقهم من الشرق الأدني الي فرنسا، التحق"رشدي"بجامعة "زيورخ"ولم يجد استاذا بها يعينه علي دراسة"جيولوجيا البترول"، كان هذا الفرع المعرفي جديدا علي أوروبا، لذا قرر رشدي نقل بعثته الي أمريكا التي عرفت هذا التخصص الحديث، ووصلته موافقة جامعة القاهرة بعد عامين، وكان علي وشك إنهاء رسالته التي بدأها في جامعة "زيورخ"، وقرر إلقاء هذه الرسالة جانبا وتوجه الي جامعة "هارفارد"، وكان معظم زملائه من مسرحي الحرب العالمية الثانية، وقد عركتهم الحياة وزودتهم بالخبرة والمعرفة، وأهم ما تعلمه في هذه الجامعة هو تأصيل الفهم في منهج العلوم وعرف الملاحظة والتفسير، وحين عاد الي مصر أتيح له مشاركة أساطين العلم في مصر لترجمة القاموس العلمي. كتابه "رحلة عمر"الذي وضع له عنوانا دالا"ثروات مصر بين عبد الناصر والسادات"مزج فيه بين السيرة الذاتية وبين ثروات مصر ومواردها الطبيعية والبشرية بين عصرين متناقضين، وربط بين الهم الشخصي الذي يصبح هما مصريا جماعيا، واكتمل عشقه لمصر علي أساس معرفي، توج هذا الحب بدراسة متعمقة في التربة المصرية، بحثا في العمل الحقلي الميداني، وبحثا في المعمل، وأبدع كتبا لاقت نجاحا دوليا مثل: كتابه "نهر النيل نشأته واستخدام مياهه" نشرت طبعته العربية دار الهلال، وكتابه "جيولوجية مصر"الذي أُعتبر من عمدة الكتب العلمية الدولية عن التربة المصرية، ونشر كتابين عن الواقع المصري هما: "الحقيقة والوهم في الواقع المصري"، "مصر المستقبل:المياه والطاقة والصحراء". رؤي وأفكار حملت سنوات السبعينات في مصر مناخاً خانقاً علي جموع المثقفين والوطنيين والكوادر المصرية الشريفة في جميع النواحي، لم يسمح هذا المناخ القيام بأي مبادرة أو عمل مثمر، فاستقال "رشدي سعيد" من مؤسسة التعدين، وأنهي علاقاته بالوظائف الرسمية، فقد كانت حياته جهادا وكدّا مثمرين لتحقيق أهداف كانت من الممكن لو تحققت لجاءت بالرخاء لمصر والسعادة لشعبها، دخل "رشدي سعيد" في معارك كثيرة في مجالات عمله المتنوعة، لم يكن همه إلا الصالح العام، في الجامعة كان يسعي الي ترسيخ قواعد البحث العلمي وتفعيل دور السلوك لتأكيد مباديء العدل والحكم الموضوعي، ونقد العقل الخرافي الذي يسّيرالأمور في مصروحتي علي مستوي النخب السياسية، كان يري - ولايزال أن خروج مصر من كبوتها له سبيل واحد هو العودة للشعب المصري بكل طوائفه والاعتماد علي تعبئة إمكانياته وتجنيد كفاءاته وهو الحل الأوحد والحقيقي الذي يمكن مصرالدخول الي نطاق الأمم المتقدمة، وما صنعت حضارة في تاريخ الإنسان إلا بأيدي أبنائها المخلصين .والواقع المصري والعربي اليوم في حاجة ماسة وعاجلة الي رؤي وأفكار ومشاريع، هذا المصري الوطني الصادق، تماما كما كانت هذه الأفكاروالمشاريع صالحة قبل نصف قرن. لا يمل "رشدي سعيد" المحاولات وطرح الرؤي والتصورات حول ضرورة النهوض بالصحراء والخروج من الوادي الضيق. لايحتاج"رشدي سعيد" لمناسبة للحديث عنه، أو لتذكر مكانته العلمية ومشروعاته النهضوية، أو انتمائه الصادق أو إخلاصه الوطني، وربما لم يجد التكريم المناسب الذي يليق بمكانته ودوره ورؤيته ونزاهته وإخلاصه في خدمة بلاده في مجالات متعددة. رغم التقدير والتكريم الذي ناله الرجل في المحافل الدولية، لم يلق تكريما رسميا في بلده، ولكنه في الواقع يملك قدراً كبيراُ من المحبة والتقدير، الي حد يضعه في قلب المثقفين والوطنيين المنتمين الي هذا البلد، وهذا تقدير في نظري كبير، لأن الرجل في عقل ووجدان المصريين في زمن عزت فيه قيم الانتماء والإخلاص والعرفان.