لست أدري أي سبب عجيب، وغير معقول، يجعلنا نحرم، لمدة 73 عاما، من أن نري سينما الحرب المصرية.. التي تخلد، بأفلام روائية - الي جانب التسجيلية طبعا - بطولات حرب الاستنزاف التي توجت بحرب اكتوبر..؟ إن ما قام به شعب مصر، وقياداته السياسية والعسكرية.. وأبناؤه من قادة وضباط وجنود قواته المسلحة، ينطوي علي خصوصية مصرية متفردة، جديرة بإلهام مبدعينا - بالاعتماد علي ما حدث فعلا، ودون استدعاء لخيال -بأروع الأعمال. فأي أمة معاصرة، لحقت بها هزيمة عسكرية مدمرة.. نهضت، وأعادت بناء قواتها المسلحة جذريا، وبنت خط دفاع يحمي عمقها، ودربت قواتها تدريبا شاملا علي استخدام أحدث الأسلحة. ومارست المقاومة منذ اللحظة الأولي بعمليات موجعة للعدو.. وأعدت خطتها وتكتيكاتها، مستخدمة كل أسلحتها البرية والبحرية الجوية.. حتي حققت العبور العظيم، بما يعي إعجازا بكل المقاييس العسكرية الدولية.. كل ذلك في ست سنوات فقط؟.. إن المانيا، الدولة الصناعية الكبري، صاحبة التقاليد العسكرية المشهودة، احتاجت لكي تستأنف الحرب العالمية الثانية، لغسل هزيمتها في الحرب العالمية الأولي، الي 12 عاما كاملة.. أما مصر، فإن شوقها للتحرير، ومشاعر العزة لدي جيشها، فقد اختصرا الزمن.. إنها خاصية مصرية. وأي جيش في العالم، أنتج كل هذا العدد الهائل من الأبطال؟ في كل بلاد الدنيا، أظهرت الحروب بطولاته. شاهدنا الكثير منها في الافلام الامريكية والأوربية واليابانية لكن معظم بطولات هذه البلاد كانت خططا تضعها القيادة وينفذها المكلفون بها. طبعا باقتدار وشجاعة، ومن خلال تكنولوجيات دقيقة. أما مصر، فقدمت طرازا فريدا من الأبطال: إنه المقاتل الفرد أو المجموعة التي تقوم بأعمال خارقة: بشجاعة نادرة، وإقدام وتضحية، ونجاحات لا يتوقعها خيال، ان من يسمع لروايات المشاركين في الحرب، وقصص العمليات، يشعر أن كل فرد من الافراد الذين يذكرون هو بطل حقيقي.. لقد قدمت مصر أكبر عدد من الأفراد الأبطال، قدمته أي دولة في العالم.. إنها خاصية مصرية. وما قام به هؤلاء الأبطال الأفذاذ، يشكل مادة درامية كاملة، لا يستطيع نسج مثلها أكثر كتاب الدراما مهارة.. ما كتبه أديبنا الكبير جمال الغيطاني في يومياته الأربعاء الماضي عن ابراهيم الرفاعي، وهي ليست أول كتاباته عن هذا البطل الأسطورة، فيه ما يكفي ويزيد. انه رجل يقود مجموعة صغيرة، تقوم بعمليات خلف خطوط العدو بكل ما فيها من مخاطر عبور القناة، الي الأعمال الحساسة.. ويصر -مهما كانت المخاطر- علي تنفيذها بالكامل والعودة منتصرين، يلغم موقعا من جانبيه. ينفجر جانب ولا ينفجر الجانب الآخر.. فيصر علي الصعود بنفسه - لا يكلف آخر- لكي يضمن تفجير الجانب الآخر.. رغم ان ذلك قد يعرضه للموت. يذهب لتنفيذ عملية. ينتبه العدو ويحرك قواته. يتصل به قائده في الضفة الغربية محذرا وطالبا منه العودة بسرعة، لكنه يصر علي اتمام مهمته. يزداد الخطر، فيلجأ القائد الي آخر ما يمكن ان يلجأ اليه لحثه علي العودة، فيذكره بابنه وابنته اللذين يحبهما ويحتاجان اليه، لكنه أبدا، لابد أن يكمل مهمته. يرقد في المستشفي نازفا. يعلم ان مجموعته ستقوم بعملية.. يعز عليه أن يقوموا بالعملية بدونه، يهرب، ويلحق بهم الي الميدان، أي مادة درامية لصناعة فيلم أروع من ذلك.