كلمات ربما أستعيدها الآن، وأنا أسمع وأري هؤلاء الزغب الصغار، يصدحون بمدح الرسول صلي الله عليه وسلم، ومشاعرهم صادقة وقلوبهم نقية طاهرة لم تلوثها صراعات وأطماع، ولم يدخل إليها غرور وأثره، ان مصر منجم كبير للمواهب، فقط يحتاج لمن يجد في استخراجها ويخلص في صقلها، قالها لي أستاذي الراحل الكبير عبدالمنعم الصاوي في مكتبه بمركز مطبوعات اليونسكو منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولازلت أصادفها حقيقة تسطع أمامي يوما وراء يوم. وكأنما استدعي من ذاكرتي »بردة كعب بن زهير« عندما أفلت من القتل بعد ان أهدر الرسول دمه، وهو يعتذر ويثني علي رسول الله بدرته الخالدة »بانت سعاد« فتصبح مشهدا يقف التاريخ امامه طويلا ليحدثنا عن خصال نبينا الكريم دون افتعال او مبالغة حين يقول كعب: »نبئت أن رسول الله أوعدني.. والعفو عند رسول الله مأمول«، فيعفو الرسول لما سمعها ويخلع عليه بردته، ثم يأتينا نهج البردة الاول للإمام البوصيري فيبرأ من مرضه ويشدو بها الركبان في كل زمان من بعده حبا في الرسول صلوات الله عليه، ثم يتبعه عشرات الشعراء بنهج علي نهج البردة، أشهرها نهج أمير شعراء العربية أحمد شوقي وشدت، بها كوكب الشرق أم كلثوم ليزداد بريقها وتأثيرها: »ريم علي القاع بين البان والعلم.. أحل سفك دمي في الاشهر الحرم«. وتظل الصورة ماثلة أمامي لهذا الزخم الفني الرفيع حين وقف كبار فناني مصر بنفس المكان يهيمون ببردة البوصيري، احتفالا بمولد النبي، ويفتحون الباب للأجيال المقبلة لكي تعرف المعاني النبيلة والقيم الرائعة في أدبنا العربي وأشعاره الزاخرة، وأكاد ألمس ذات الوهج يضيء في قلبي من جديد، وهؤلاء »العصافير الرقاق« في تغريدهم حنين للزمن الجميل، فكأنهم يطهرون أرواحنا من شيء ما لوثها ويغسلون أعماقنا من صدأ كثير ان عليها، لقد عرفت الأوبرا المصرية اليوم طريقها الي عالم جديد، ليس فيه من عيوب المرحلة أو أوزارها غير بعض قصور في دعم هذا الاتجاه يمكن ان يلتئم ويتم نوره الذي نرجوه. وإني لأعجب حين تنحسر الاضواء عن مثل هذا المركز الذي يدعمه المواهب بدار الاوبرا كما تنحسر عنه الامكانات المادية والمعنوية، الا من هذا التشجيع القوي الذي تبذله الدكتورة إيناس عبدالدايم رئيس الاوبرا، وتنقذ به المواهب الواعدة من عبث المتاجرين الذين يقعدون للموهبين كل مرصد، ولا اريد أن أغوص في غور المشكلات الكثيرة والمبرحة النافذة والضاربة في أركان هذا المكان العتيق، فليس من المجدي الآن في اعتقادي نكء الجراح العميقة، فالواضح أننا امام ظاهرة نظيفة مبشرة بكل معيار، تقودها رئيسة الاوبرا التي تعمل في صمت ويعاونها فريق مخلص لرسالته يحق لهم ان أسميهم واحدا.. واحدا من أول المشرف علي مركز تنمية المواهب الأستاذ عبدالوهاب السيد، والدكتورة نادية عبدالعزيز الاكاديمية والأستاذة بكلية التربية الموسيقية وهي تقود الاطفال بنفسها وتحفل بتدريبهم ورعايتهم وتقديمهم في شكلهم وأدائهم البديع الذي رأيته منذ أيام في حفل المولد النبوي الشريف، والدكتور الفنان محمد عبدالستار الأستاذ بالمعهد العالي للموسيقي العربية والذي مثل مصر في مهرجانات عالمية عديدة، وهاهو يقوم بدور كبير في استخراج وصقل المواهب الشابة من منجم مصر العظيم، وكذلك الدكتور عاطف عبدالحميد الذي شارك في التدريب، ولعل يوما قريبا سيأتي لتلمع أسماء تستحق ان تغرد بكلمات راقية في سماء الوطن، الذي ظمأ طويلا شوقا لمثل هؤلاء، ولعلي ايضا أن أطالب الصديق الفاضل الدكتور صابر عرب وزير الثقافة ان يدعم هذا المركز الذي يعمل فريقه في صمت وفي ظروف مادية ومعنوية أقل مما نرجوه من وراء الفكرة الكبيرة للكشف عن جواهر مصر الثمينة، وهي تحت تراب منجمها الذي لا ينفد.