بعد ظهر الخميس 29 نوفمبر 2012 ودع المصريون بجميع طوائفهم، وأساتذة الجامعات المصرية بجميع تخصصاتهم، والمفكرون بجميع انتماءاتهم علماً فريداً من أعلام مصر الحرة، ومفكراً فذاً في الفكر المتحرر المستنير هو الأستاذ الدكتور ميلاد حنا - أستاذ الهندسة الإنشائية المتفرغ بهندسة عين شمس والكاتب بالعديد من الجرائد المصرية، عن عمر يبلغ 88 عاماً. تعود علاقتي الحميمة بالدكتور ميلاد حنا إلي صيف عام 1994 حينما فكر الصحفي القدير والمصري المخلص الأستاذ أنطون سيدهم مؤسس ورئيس تحرير جريدة "وطني" الأسبوعية التي تصدر يوم الأحد، في تأسيس صفحة جديدة لمواجهة الإرهاب الذي بدأ يطل بسمومه علي الشعب المصري في تلك الآونة، وكانت الصفحة تحمل اسم "من دفتر من أحوال الوطن" دعا فيها الأستاذ أمين فخري عبدالنور (نجل الأستاذ فخري عبدالنور أحد رواد الحركة الوطنية المصرية في ثورة 1919) د. ميلاد حنا (المفكر المصري)، د. وليم سليمان قلادة (المستشار بمجلس الدولة والمتخصص في التشريعات الكنسية)، د. سليمان نسيم (أستاذ أصول التربية والمتخصص في التقاليد الكنسية الراسخة)، الأستاذ ماجد عطية (الصحفي والمتخصص في الأمور الاقتصادية)، بالأضافة إلي كاتب المقال إذ كنت أصغرهم سناً وعلماً ومقاماً. فكنا نجتمع سوياً أسبوعياً مساء يوم الأربعاء بصالة الاجتماعات بالجريدة بمنطقة وسط القاهرة برئاسة الأستاذ أنطون سيدهم، نتداول فيها شتي شئون الوطن والكنيسة بفكر مستنير دون تحجر علي فكر وبشفافية كاملة، وكانت الصفحة تصدر كاملة كل أحد متناولة العديد من المقالات الثرية بالدراسات الجادة. كان العمود الذي يكتبه د. ميلاد حنا يحمل اسم: "غداً تشرق الشمس"، إذ كان دائماً لديه رؤية تفاؤلية، ولديه روح الشباب المتحمس للنهوض بالوطن من عثراته. وكنت أكتب في سلسلة تحمل اسم "أقباط في تاريخ مصر"، وكان د. وليم سليمان قلاده يكتب في "الروح المصرية الصادقة بين المصريين"، و د. سليمان نسيم يكتب في "الفكر التربوي بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية وآباء البؤية المصرية". هذا بالاضافة إلي أنه كانت تتم العديد من المكالمات التليفونية بيننا لمناقشة بعض المستجدات في الساحة المصرية أو في الشأن الكنسي العام وأيضاً لمناقشة بعض من مقالاته. وظلت الصداقة بيننا حتي فترة مرضه الأخير عندما لم أتمكن من الاتصال به. كان لراحلنا الفاضل العديد من المؤلفات منها: أريد مسكناً (1978)، نعم أقباط لكن مصريون (1980)، ذكريات سبتمبرية (1987)، الأعمدة السبعة للشخصية المصرية (1989)، حاجة الانسان العربي للإسكان (1991)، صراع الحضارات والبديل الانساني (1995)، ساسة ورهبان وراء القضبان (1997). كان أحد أبرز الكُتّاب والمفكرين السياسيين وواحداً من بين المشاهير الذين شملتهم اعتقالات سبتمبر 1981 البغيضة، خرج بعدها من التحفظ وقد ازداد إهتمامه بقضية الوحدة الوطنية، كما ازداد أيمانه بضرورة السعي نحو تحقيق المصالحة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد. كان يؤمن أن الانتماء الديني مسألة شخصية بحتة وأن النشاط السياسي هو أمر يتعلق بالأيديولوجية الفكرية والقدرة علي الحوار فلا يجب الخلط في الأوراق بين الدين والسياسة، ويجب أن يكون هناك فصل بين الدين والسياسة. فكل فرد منا له انتماءاته لكن الانتماء الحقيقي ينبغي أن يكون إلي مصر ثم مصر... ثم مصر وبعدها يأتي الانتماء إلي الدين أو المهنة أو المحافظة أوغيرها. رحل عنا د. ميلاد حنا في ظروف حرجة وصعبة يجتازها الوطن المحبوب إذ يمر بمرحلة عدم استقرار ويموج بالعديد من الاضطرابات، والثورات مشتعلة في ميدان التحرير وبقية الميادين المصرية. انطلقت نفسه الوثابة من سجن الجسد الترابي لتلتحق بالآباء الأولين الذين أعطوا بسخاء حقيقي للوطن والكنيسة والانسانية لتستقر إلي الأبد في مساكن النور والفرح. نودعك أيها المفكر والمجاهد والصديق الوفي والعالم الجليل إلي الراحة الأبدية حيث الموضع الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد. وكما كنت تردد معنا في الصلوات الكنسية العميقة - وسنظل نحن نردده - "ننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي"، ذلك الإيمان الحي الذي عاش به الآباء ويردده الأبناء. نقول لك بالحب: "أوجاي" - باللغة القبطية التي تعني مع السلامة - ونراك بخير بعد قليل.