إذا ما قررت مغادرة ساحة بوتسدام برلتز التي تتوسط عاصمة التوحد الألمانية، فحتما سوف تنصحك الأصوات المحيطة بأن تدير ظهرك للساحة وتتجه يسارا، هنا فقط وللوهلة الأولي سوف تشعر بانقباضة لا تعرف سببها، ذلك إذا كنت زائرا للمرة الأولي مثلي، فالصورة هنا كئيبة علي عكس المدينة الدؤوبة، جامدة الإيحاءات، يبدو المظهر في لقطته الأولي موحشا، القوالب الحجرية صامتة تماما، متراصة تباعا في ترتيب لا يعلمه سوي من قام بهندسة الموقع.. هو المهندس الأمريكي بيتر أيزنمان، أنت الآن أمام النصب التذكاري لضحايا ما سمي بمحرقة الهولوكوست.. تقول روايات انها راح ضحيتها ما يقرب من ستة ملايين يهودي علي يد الزعيم النازي الألماني هتلر. اختيار مكان النصب التذكاري لم يكن صعبا وقت أن قررت تنفيذ المشروع -الذي طرح مرارا- قبل عام 9891 بمبادرة من المؤرخ إيبرهارديكل والناشرة ليا روش قبل سقوط جدار برلين، والمكان كان مقرا لوزارة الدعاية النازية بقيادة يوزف غوبلز حتي عام 5491، هو موقع النصب اليوم بمظهره المقبض، يبدو الآن شيئا بديهيا في قلب العاصمة الألمانية، هو تذكرة دائمة للألمان بدينهم تجاه يهود العالم، والجيمع هنا يود لو تبرأ من هذه المجزرة التي لم يتأكد حدوثها سوي للألمان فقط. هنا أيضا المكان يجمع بين متناقضين، همهمات مراهقة ملتاعة، وأنين حرقة علي الموتي، شهادتان متضادتان أولهما مأساويا لشهادات حية لبعض الناجين من ضحايا المحرقة وأقاربهم، والأخيرة نقيض، ضحكات تتعالي بين الحين والآخر لصغار شباب هذه المدينة التي تعرف بشبابها، فبعد انتهاء ساعات الذروة وبدء دخول المساء يتجمع الشباب في صورة بديعة لتصبح المحرقة ملتقا لصغار العشاق يفترشونها لتبدأ أحاديث المساء. عزيزتي انشراح عزيزتي انشراح.. أكتب لكي كتابي الذي حتما لن يصلك، مؤكدا ان العلاقة بيننا لم تتجاوز مجرد قراءتي اسم منقوش علي حجر صامت.. فمع تجولي في ليلتي الأولي في شوارع العاصمة الصارمة غير الصلفة، بدأت مشاعر الجمود تتسللني شيئا فشيئا، حتي أمتار قليلة من مكان اقامتي، كنت وقتها قد وصلت إلي أشلاء من جدار برلين، وقف زوار المدينة الساحرة، مدينة الفنون، يلتقطون الصور الفوتوغرافية، منهم من راح يرسم اسمه ليخلده، ومنهم من اكتفي بالتصوير، أما أنا فكان اهتمامي الأول بقراءة ومتابعة تلك الخطوط اللاتينية متعددة اللغات »بيتر- دان- راش- مارتيني- رالف« وكلها مألوفة في بلاد غربية، حتي لمحت عيني حروفا عربية لاسم مصري قديم منقوش بما يشبه الفحم »انشراح«.. اعترف لكي أن اسمك فقط خرق لدي حاجز الاغتراب ورسم ابتسامة لفتت كل المحيطين.. فكل الشكر لك عزيزتي انشراح علي هذه الألفة التي منحها اسمك. بوابة براندنبورج كنت أظن أن بوابة أخري لن ترهقني في حياتي بجلالها مثل بوابة قصر المتنزه بالإسكندرية، إلا انني اكتشفت ان المثل المصري القديم: ان أدري فصحيح ان اللي يعيش.. ياما يشوف، فأمام بوابة براندنبورغ وقفت اتطلع هذا المتحف الرأسي المفتوح، من هنا تدخل جميع الفنون، تستقر خلف البوابة، حتي فنون الشحاذة الراقية، عازف الفيولين الأنيق، بياقته البيضاء يعزف مقطوعته غير عابئ بمن يضع السنتات امامه في حافظته الأنيقة، وبعده بخطوات لاعب الأكروبات الماهر الذي يلعب عرضه ويقف لتحيي المتفرجين دول استدرار عطفهم أو نزعاتهم، هذا البناء الحجري الشاهق الذي استغرق بناءه 4 سنوات انتهي عام 971، يرفع في تاجه تمثال الكوادريجا وهي عربة تجرها أربعة خيول ترمز لمدينة برلين، براندبورج التي كانت تمثل قديما انقساما ألمانيا إلي شرق وغرب، أصبحت الآن رمزا إلي الوحدة الألمانية وهي البوابة الوحيدة المتبقية من بوابات برلين القديمة.. البوابة أغلقت منذ أكتوبر 2002 أمام حركة المرور، بما في ذلك الحافلات وسيارات الأجرة، مثل شارع الشواربي التليد بوسط القاهرةالإسماعيلية.