سار في ظلمة الليل .. تخفي بعتمته الشديدة من أعين العدو .. كان يستغرب تلك العتمة رغم أن اللية من المفترض انها مقمرة.. لكنه انصرف عن تساؤلاته تلك ليركز في هدفه الاهم .. وهو جمع معلومات عن احدي وحدات العدو .. وكان كل ما يشغله في هذا الوقت.. كيف سيصل الي مكان وحدة العدو المستهدفة داخل سيناء .. ووسط كل هذا الأفكار التي كانت تتنازعه فجأة خرج الصباح بدون أي مقدمات وإذا بنور الشمس يتهادي علي الأرض مرة واحدة .. إلا أن حيرته لم تدم طويلا فقد اكتشف ان الظلام الذي كان يسير في عتمته .. ما هو إلا سحابة كثيفة كانت تعلو احد جبال سيناء سار داخلها وعندما انقشعت .. وجد نفسه وجها لوجه مع العدو وداخل احدي وحداته في ارض الوحدة تري ما سيفعل اذن.. انها قصة حقيقة بالفعل .. بطلها اللواء نصر محمد سالم، رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق، وقائد أحد أهم مجموعات الاستطلاع خلف خطوط الجيش الإسرائيلي أثناء ملحمة العبور .. والذي نقل معلومات عن أهم 3 محاور للعدو في حرب أكتوبر73". " الأخبار " حاورته لتعلم ماذا فعل في هذا الموقف .. لكن قبلها ليروي لنا إحدي ملامح بطولات حرب التحرير المجيدة يؤكد اللواء نصر محمد سالم في البداية أنه لم يكن هناك علي الإطلاق مشكلة في حجم توافر المعلومات عن العدو لأن عناصر الاستطلاع بدأت عملها لحرب أكتوبر منذ يوم 5 يونيو 67 وقبله، فعند صدور الأوامر بارتداد القوات أثناء النكسة كانت هناك أوامر موازية لجميع عناصر الاستطلاع بألا تفقد الاتصال بالعدو تحت أي ظرف وفي أي مكان، فتم إعادة تجميع وتنظيم عناصر الاستطلاع بسيناء لوضع العدو تحت المراقبة المستمرة علي مدار الساعة. وقال أن العمل المخابراتي يؤمن بحكمة قديمة تقول " لا بد أن تعرف كل شئ عن عدوك قبل أن تحاربه فإذا عرفت مصادر قوته فقد كسبت نصف المعركة قبل أن تبدأ، أما إذا عرفت واستعددت له فأنت كسبت 75٪ من المعركة". خلف الخطوط وأكد اللواء نصر أنه كان أحد قادة مجموعات الاستطلاع الاستراتيجية التي تعمل خلف خطوط العدو وكانت مهمتها معرفة أوضاع العدو وحجم نشاطه لمدة 6 أيام فقط، إلا أن المجموعة استطاعت أن تستمر في عملها لمدة 6 أشهر بعد انتهاء الحرب، وأوضح أن المسرح السينائي لم نفقد سيطرتنا عليه من الناحية المعلوماتية، وقال " كنت أراقب محورين طوليين من عمق العدو في اتجاه الجبهة يربط بينهما محور عرضي بالإضافة إلي منطقة تعبوية غاية في الأهمية يتواجد فيها باستمرار الاحتياطي التعبوي للعدو وأي قوات يتم تجميعها، بالإضافة إلي مراقبة أحد المطارات الرئيسية للجبهة وتم توفير المعلومات عن اللواء المدرع الذي تم قصفه يوم 8 أكتوبر ومنعه من التدخل. يتذكر اللواء نصر موقفا طريفا حدث يوم 8 أكتوبر، حيث وصلت 4طائرات من طراز ميج 32 وتم التعامل معها وأصيبت بنسبة خسائر عالية كما تم تدمير نحو 20 دبابة، فأصيب اللواء المدرع بالفزع، خاصة عندما شاهد طائرتين تحلقان في السماء، حينها فوجئنا بانتشار الدبابات بسرعة كبيرة فتوقعت أن هناك طيرانا مصريا يضرب، ومع الفزع اكتشفنا أنها طائرات اسكاي هوك إسرائيلية لكن من فزع العدو ظن أنها مصرية فتكررت نفس الخسائر، وفعلا تحقق حديث الرسول صلي الله عليه وسلم نصرت بالرعب مسيرة شهر. داخل المواقع وأضاف أنه بعد وقف إطلاق النار اكتشف العدو أن قوات الصاعقة تختبئ بالجبال فبدأ بعمل عملية تمشيط كاملة تمثل تهديدا للأماكن التي كنا نتواجد فيها فكان القرار أن نختفي داخل مواقع العدو أو في اقرب مكان لا يتوقع وجودنا فيه علي الإطلاق. وواصل "من ضمن الطرائف الأخري التي حدثت، أني كلفت بمهمة لاستطلاع منطقة فتحركت في اتجاهها وكانت المسافة لا تقل عن نحو 80 كيلو، ومن دراسة الخريطة اكتشفت أن العدو يحيط بلسان صخري جبلي، وأن أفضل الطرق للوصول للهدف اختراق هذا اللسان الصخري، وبدأت التحرك ليلا واحتسبت نحو 3 ساعات للوصول للموقع، وكان ذلك بعد وقف إطلاق النار، فتحركت فوق لسان الصخر بحيث عندما أصل لنهايته أسيطر علي موقع العدو، وفي لحظة معينة وبدون أي مقدمات وجدت نفسي في وضح النهار وكأني في غرفة مظلمة وتم إضاءتها مرة واحدة، فوجدت نفسي في منتصف موقع العدو لأن اللسان الصخري كان يخترق الموقع، وكنت ارتدي الزي العسكري والساعة كانت الثامنة صباحا وعندما نظرت خلفي اكتشفت أني سرت داخل سحابة فوق الجبل دون أن أشعر .. وبعد أن وجدت نفسي في مواجهة العدو تأكدت أنه رآني، واستعددت للشهادة لأن موضوع الأسر غير وارد بالمرة بالنسبة لضابط الاستخبارات، وتعلمنا أن نموت أفضل من أن يتم أسرنا لأسباب كثيرة منها الحفاظ علي ما نحمله من معلومات مهمة " فإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا " .. وقلت لنفسي علي أن ابلغ ما أراه قبل أن يصل العدو، فأخرجت اللاسلكي وأبلغت قادتي بكل ما رأيته، في غضون 5 دقائق مروا علي كالدهر، ولم يأتني أي شخص من أفراد العدو فاستحضرت قول المولي عز وجل "فأغشيناهم فهم لا يبصرون" ثم عدت سالما. وحول معرفته بساعة الصفر أشار إلي أنه كلف بمهمة ليلة 5 أكتوبر وكان يعلم أننا سنحارب، لكن ميعاد ساعة الصفر كان مجهولا، واستطرد "كنا ننفذ مهمة استطلاع منطقة في العمق الاستراتيجي التعبوي للعدو، ونحن نسير في الثانية ظهر السادس من أكتوبر فوجئنا بالطيران المصري يحلق فوقنا، وهذا يدل علي مدي السرية التي أحاطت بميعاد ساعة الصفر، وبعد أن وصلنا لمنطقة الهدف سجدت لله شكرا، حيث كانت مهمتي تجمع لواء مدرع للعدو ومطار متقدم من مطارات الجبهة ومحورين رئيسيين ومحور عرضي يربط بينهما، كلها كنت أراقبها من مكان واحد، خاصة بعد تدمير احدي مجموعات الاستطلاع لأحد هذين المحورين و تعطل جهاز اللاسلكي للمجموعة الثانية، فقمت بعملهم جميعا، لذلك عندما طلبت الانتقال لمكان آخر.. القيادة رفضت تماما. نصف العلاج وحول موضوع الثغرة أكد أن أمريكا دعمت إسرائيل بطائرات بدون طيار لإحداث الثغرة في الدفرسوار وقامت بالتشويش علي رادارات قواتنا، في إطار الحرب الإليكترونية حيث تم إبطال عمل كل عناصر الاتصال في منطقة الثغرة فضلا عن وجود مسافة بين الجيشين الثاني والثالث، لذلك قال الرئيس السادات حينها " لن أحارب أمريكا"، وفي مباحثات الكيلو 101 العدو هو الذي طلب بانسحاب قواته من الثغرة لأنها كانت محاطة بقوات مصرية وقال كيسنجر لن نسمح بتدمير الأسلحة الأمريكية. وحول مهام ضابط الاستطلاع يقول اللواء نصر إنه الشخص المسئول عن نصف قرار القائد وشريك في إعداد النصف الآخر، فمثلما قالت الحكمة إن تشخيص المرض نصف العلاج.