في ساعاتها الأخيرة - وكانت واعية أنها قاب قوسين من النهاية وأنا أيضا لكن إلا قليلا - همست مستسلمة »خلاص يا بني« ثم أغمضت عينيها الجميلتين متألمة، والنَّفَس هادئ، والنَّفْس مطمئنة، مكثت بجوار سريرها في مستشفي الشرطة، أحدق فيها، وأملأ عيني منها. لم أجرؤ علي الاستباق، آثرت الاسترجاع ، استرجاع 36 عاما منذ تخلقت روحي الصحفية علي يديها، وأنا في العشرين طالبا في الجامعة في عامي الثاني، حين أطلقني الأستاذ موسي صبري، في شارع الصحافة، برغبة من السيدة د.جيهان السادات، زميلة الدراسة في كلية الآداب، أطال الله عمرها، واحتوتني "حسن شاه" بعد أن تحركت، تدريبيا، مابين قسم التحقيقات الصحفية مع د. صلاح قبضايا، وكانت معنا الرقيقتان ثناء أبوالحمد وسناء عبد الحليم، وقسم الحوادث مع الأستاذ الراحل سامي جوهر،وبأت مع أستاذتي حسن شاهد في صفحة "أخبار الأدب" وكانت النواة المخصبة لجريدة "أخبار الأدب" بعد ذلك، وتشرنقت في الصفحة وكنت فارسا فيها بالحرص علي الموضوع الرئيسي سبعة أعوام، وكأنها سبعين عاما، من الثراء الصحفي المعملي في دار أخبار اليوم والفائدة العلمية قي أجواء من النادر أن تتكرر، حيث تفجير القضايا الثقافية مع عمالقة الفكر والإبداع في عقدي السبعينيات والثمانينيات ، وفي عام 1984 سافرت الي مسقط ، وانتقلت أستاذتي رئيسا لتحرير مجلة الكواكب، بدار الهلال، وافترقنا مكانيا فقط. استغرقتني لحظة التخلق ولذة البداية، وتمددت وامتدت عمرا، تدثر صاحبه بوصف استاذته له "ابني البكر في عالم الصحافة" كما كتبت في يومياتها ب"الاخبار" بتاريخ 8 يوليو 2010 يوم أن حصلت علي درجة الماجستير في أدب يوسف إدريس وكان حلمها أن تشهد الدكتوراه بعد شهور، وسأهديها لها في مثواها الأخير كما أهديتها الماجستير وأنا أعلن في بهو المناقشة بالمدرج 78 بكلية الآداب أمام الحضور او أهدي باقة خاصة من الشكر والإجلال إلي أستاذتي في عالم الصحافة السيدة الجليلة "حُسن شاه" التي مكنتني من التشبث بالقلم الصحفي في"دار أخبار اليوم" منذ العام 1976 فأطلقتني في شارع الصحافة لأظل معترفا بجميل صنعها وأنا أحلق في فضاء الصحافة". نعم هي أستاذتي وأنا ابنها البكر في عالم الصحافة، استقطرت عبير الأستاذية من شخصها وشخصيتها، ومن قلمها الذي كان يقطر صحافة وثقافة وأدبا وفنا، علمتني رشاقة الكلمة، وأناقة العنوان، وشياكة الموضوع الذي لابد أن ينجح مادام يتحرك في دائرتين أن ينهل مما يشغل الناس أو يشغل بال الناس والمجتمع.. كان قلبها رحيما عطوفا ، مثلما كان بيتها كريما واسعا، مثلما كان مكتبها مصباحا لم ينطفئ يوما، كلها كانت حسنا علي حسن ، الأستاذة والأم والصديقة، تشكيل إنساني بديع.. حضرتني وشذبتني وثقفتني، وملأت حياتي صحافة وثقافة وسياسة وأخلاقيات مهنة وسلوكيات وتجارب وخبران ، وهي الكاتبة والحقوقية والناقدة والمبدعة، وفي كل مشكلة كنت »أريد حلا« لها كنت أطلب اللجوء اليها، فهي المأوي والواحة والأمن والأمان والصدر الحنون ، والسم الذي يفوح الاحترام والوقار والإبهار والعبير والأثير. عظيمة أنت ياسيدتي .. والعظمة في البشر تقاس بمدي ما يقدمه من إصلاح في المجتمع والناس، وكم كانت قصة فيلم »أريد حلا« بالذات، رائعة ومروعة، حيث قدمت ما لم تقدمه عشرات المؤتمرات والدراسات في قضية الأحوال الشخصية للمرأة، ونجحت هي في »تطبيب« كفة ميزان العدل الإنساني لصالح المرأة.. قوية أنت يا سيدتي.. وأقبل يدها التي هدأت واستكانت بعد أن سطرت عشرات الألوف من الصفحات، تعبت يا أستاذتي وما تعبت يداك، حتي في آخر أيامك ، فكنت أقوي من المرض المتوحش بجمالك وصبرك وحلمك، وقلمك وألمك وأملك، و..كلك!. عذبة أنت يا سيدتي.. وأحدق في وجهك الأبيض السمح، الذي غلب بعذوبته عذابات المحنة، والمحنة منحة، خاصة الألم النفسي والاجتماعي الذي اخترق وعيك في السنة الأخيرة بكل أوجاعها السياسية وتداعياتها المرعبة.. رقيقة أنت يا سيدتي.. قلبك الذي ينبض بهدوء كان متوقدا لأصغر رسالة ضمن ألوف الرسائل المكدسة في غرفة مكتبك المنزلي، كانت تبكي لدموع المقهورين والمهمشين والمحتاجين الذي يئنون تحت وطأة العوز، وكانت تلبي ما تستطيع عبر صفحتها الشهيرة في الأخبار »أريد حلا« كنت اشاركها الأوجاع وأنا أقرأ معها أننات الرسائل الحارقة والمحترقة أصحابها من النساء والرجال شيبة وشباب. كبيرة أنت يا سيدتي.. والوجة البرئ لم تؤثر فيه عذابات السنين، 81 عاما من الكفاح والنجاح، والتألق والتوهج، والصورة أصدق إنباء وأنباء من أي مصدر توثيقي، صورها وهي تتقمص شخصية كمسارية في الأوتوبيس لعمل تحقيق صحفي، وصورها مع ياسر عرفات وهي تشارك فدائيي منظمة التحرير الفلسطينية، صورها في ثورة تحرير الجزائر، وصورها مع عمالقة الثقافة والفن والأدب، ومجلدات من المقالات والأعمال، وقد ظلت طوال عمرها راهبة في معبد الصحافة، خالصة مخلصة، ذات النسق الصافي في أجواء صاحبة الجلالة. عزيزة أنت يا سيدتي.. وعزة النفس لديك، وأنا علي ذلكم من الشاهدين، هي عرشك وتاجك، لا قصور ولا فيلل ولا ملايين في البنوك، فقط شقة المهندسين، هي هي لم تتغير، ورصيدها الإخلاص، والذكري للإنسان عمر ثان. وتطول اللحظة.. وأنات الألم المنبعثة من صدرها تستعيدني من الإسترجاع والاستغراق، وأفارق أستاذتي وأمي، فالعناية المركزة لا تحتمل، وأناتي تتساوي مع أناتها، وتخلد هي للراحة، وأحسبها وأتحسبها"غفوة" فإذا هي النقطة الأخيرة في السطر. فقد جاءني صوت الابن الحبيب محمد أنور ماضي وشقيقته الحبيبة رشا، في السابعة من صباح السبت الماضي، والصوت : الصمت الأبدي، و"إنا لله وإنا إليه راجعون" وأردد مصليا مترحما "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلي ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" صدق الله العظيم.