لا اعتراض علي قضاء الله. لكن في أسبوع واحد فقدت مصر كوكبة من أجمل وأعظم كتابها ومبدعيها. ما كاد يومان يمران علي وفاة الكاتب والصحفي الكبير سلامة احمد سلامة. حتي جاءني في يوم واحد نبأ وفاة الكاتب الكبير والزميل النبيل محمد البساطي. وبعده بقليل نبأ وفاة المخرج الرائع والاستاذ المرموق والمحبوب من كل طلابه في معهد السينما الدكتور هشام ابو النصر وبعده بدقائق نبأ وفاة الكاتبة والصحفية الكبيرة حسن شاه وماكاد الصباح يهل حتي جاءني خبر وفاة المايسترو والفنان جهاد داوود.. اعرف هؤلاء جميعا سواء من كتاباتهم او من الحياة. طبعا يحتل محمد البساطي المكانة الاولي في هذه المعرفة باعتباره اديبا وروائيا. ابن مهنتي، وباعتبار الصحبة والرفقة لسنوات طويلة. علي المستوي الشخصي كانت الظروف احيانا تجمع بيني وبين هشام ابو النصر الذي لم يتغير ابدا في رأيه فيما يحدث في مصر وسخطه علي النظام السابق وحبه للوطن. البساطي الذي أصدر خلال رحلته اكثر من عشرين كتابا ما بين الرواية والقصة القصيرة كان وسط الحركة الأدبية مثل راحة تحت شجرة وارفة بعد يوم عمل حار. كانت اول معرفتي به حين قرأت له في أوائل السبعينات مجموعته " حديث من الطابق الثالث " التي فتنتني جدا وكنت بعد في الاسكندرية. وحين اتيت القاهرة كان قد اصدر روايته الجميلة " التاجر والنقاش " التي فتنتي اكثر وكتبت عنها في ذلك الوقت مقالا في مجلة غير دورية كان ينشرها الكاتب الصديق عبده جبير اسمها "كتب عربية " كانت محاولة منه لمتابعة ماينشر في وقت كان الكتاب جميعا تقريبا علي هامش الدولة المصرية ونظام السادات ولا يكتبون في صحفه أو مجلاته فضلا عن هجرة الكثيرين منهم للبلاد. تعددت اللقاءات التي لا تحصي مع البساطي وكانت الحياة الثقافية ضيقة لكن البساطي كان دائما يبدو هادئا كأن ما يحدث حوله أمر طبيعي يهزمه بالكتابة. اختار لنفسه طريق التجديد في لغة الحكي وكان استخدامه للغة أشبه بالبحث عن عروق الذهب بين الكثبان والغبار. ومن ثم كانت كل رواية او مجموعة قصصية تمثل اضافة لنهج التجديد في الكتابة. لم يكن ابدا بعيدا عما يدور في الساحة السياسية والثقافية لكنه كان يراه باعتباره أمرا منتظرا من الاوغاد . وفي المرة الوحيدة التي شارك فيها عمليا في الحياة الثقافية وصار رئيسا لسلسة اصوات أدبية بالثقافة الجماهيرية التي انتهت بما عرف بمصادرة الثلاث روايات بسبب الهجوم الاخواني عليها في مجلس الشعب وانصياع وزارة الثقافة لهذا الهجوم ومصادرة الروايات بعد ان كان موقفها غير ذلك من قبل في قضية رواية وليمة لاعشاب البحر. ترك البساطي كل عمل عام وعاد الي خندقه الأصيل. الرفض. كان البساطي الذي يبدو بعيدا دائما عن الأحداث في قلبها لكنه ليس عالي الصوت. واذكر في السبعينات كيف قبض عليه مع المرحوم ابراهيم منصور من مقهي ريش حين اصدرا بيانا ضد سياسة الرئيس السادات. لكن سرعان ما افرج عنهما. علي ان هذا كله ليس مهما قياسا علي ما أبدعه البساطي. القيمة الأدبية للبساطي هي الأبقي وهي الأهم علي ما في المعارضة السياسية من إغراء يضيفه البعض للكاتب. لا تجد بين أعمال البساطي عملا ضعيفا أو عابرا. ويحار النقاد الذين يحبون أن يختصروا الكاتب أحيانا في عمل او اثنين في البساطي فكل اعماله جميلة وهو إن كان قد بدأ بكتابة القصة القصيرة إلا انه مبكرا دخل مجال الرواية وصارت الرواية والقصة هما جناحا التجديد الذي يغامر فيه البساطي.. وأذكر انه بعد ان عمل بعض سنوات في المملكة العربية السعودية وعاد. بعد ذلك بأكثر من عام سألته ألن تكتب عن هذه التجربة فقال لي لا. قالها بلا مبالاة ولكني كنت أعرف أنها في روحه وأنه يقول ذلك انتظارا للرواية، وبعدها بسنوات اصدر روايته الفاتنة "الخالدية ". ابتعدت جوائز الدولة كثيرا عن البساطي رغم انه من اوائل من فازوا بجائزة العويس وترجموا في الخارج ثم جاءته جائزة الدولة التقديرية قبل وفاته بأيام. كان البساطي بعيدا يعاني من المرض ولعله لو كان قد عرف لم يهتم. لقد عرفت بمرضه متأخرا لأنه كان يخفي ذلك عن كل الناس وحين هاتفته وكان يعالج من سرطان الكبد أخبرني أنه بخير ورفض مني كل حديث عن ضرورة دعوة وزارة الثقافة او اتحاد الكتاب او الدولة في علاجه. وطلب مني أن لا أفعل ذلك أبدا، وتحايلت علي الموقف بأن أخبرت عددا من الصحفيين ان يتصلوا به ويذهبوا اليه ويكتبوا ولا يخبروه بأني مصدر الخبر وكما حدث معي حدث مع الجميع قال لهم جميعا انه بخير. وقبل وفاته بيومين كنت في قناة الأون تي في وقبل الدخول الي البرنامج مع الصحفي جابر القرموطي جاء خبر انقطاع التيار عن المستشفي الذي ينزل فيه البساطي في غرفة الانعاش واعطيت تليفونه للصحفي محمد عبد الرحمن وقلت له ان يتصل ليتأكد بنفسه وقلت له لن يخبرك أحد بمشكلة وسيقولون لك انه بخير وبالفعل اتصل فردت عليه اسرته وقالت انه بخير. كانت هذه توصيات البساطي النبيل ان لا يكون مصدر ألم لأحد. لكنه فاتنا وترك خلفه ألما كبيرا، هل حقا ولت كل الأيام الجميلة التي امضيناها معا هنا او في الخارج. تحمل الذاكرة كل جميل ونبيل للبساطي الذي ترك خلفه زادا جميلا من الاعمال للادب العربي وقرائه في كل مكان وزمان. لقد كان يوم الأحد الماضي يوما غريبا في تاريخ هذا الوطن اذ رحل عنه البساطي وكل هؤلاء المبدعين الكبار. لقد كان الاسبوع كله للأحزان.