علمنا التاريخ أن مستقبل الأوطان رهن بشعوبها في تطلعها للحق والعدل والحرية ورصيدها الحي من فكر وعلم وإرادة، وعلمتنا التجارب أن آفة الرجال الهوي، ولسوف يذكر التاريخ أن ما نعايشه من أزمات ومحن كان جزاءً وفاقاً لهوي لجنة "البشري" والتعديلات الدستورية التي مهدت للإلتفاف علي الثورة والتأسيس للإنتهازية والفوضي. هكذا بدأت حديثي في محاضرة تفاعلية مع طلاب وأساتذة جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، شغلنا فيها بالحديث عن المستقبل والعمل من أجله، ولقد أسعدني ذلك الوعي البادي علي الحضور وانتباههم لقيمة اللحظة الفارقة في تاريخنا المعاصر وتمسكهم باهداف الثورة وعدم انسياقهم وراء ماهو مطروح في محيطنا العام من ألاعيب الساسة وجماعات التخلف ومحاولات تغييب الوعي و"أبلسة" الثوار وتعليب الثورة، فبدا الأمر كما لو أن قراراً ضمنيا اتخذناه بالتركيز علي طموحات جيل الثورة في دولة مدنية عصرية ناهضة تؤسس لمجتمع العدالة والمعرفة إحياء لتاريخ تليد ونبوع مصري علم العالم في فترته الفرعونية التي أبدعت الآداب والفنون والعلوم وأسست لفجر الضمير ووحدانية الخالق وانسانية البشر، ولقد استمر دور مصر التنويري في العصور اليونانية والرومانية، وجاءت جذورها عميقة وأصيلة في النهوض العربي الأول في آواخر العصر الأموي وخلال العصر العباسي، أي الفترة مابين منتصف القرن الثامن الميلادي وحتي القرن الثاني عشرحيث انفتحنا علي العالم في حركة نشطة للتأليف والتأسيس والترجمة، استفاد منها الغرب وكانت من أهم روافده للتنوير والنهضة وعصر الرينيسانس. ولم تكن محاولة النهضة استثناء في تاريخنا القديم والوسيط وانما ظلت بذرتها مطمورة في ترابنا واصلابنا وعبر كل العصور. فإذا ما ركزنا اهتمامنا بتاريخنا المعاصر، فإن أبرز أمثلتنا للتحديث والنهضة بدأت منذ 1805 مع محمد علي ومحاولته القوية لتأسيس دولة مصرية حديثة حاول إحياء مشروعها القومي للنهضة جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن العشرين. واحسبنا لسنا في حاجة للتأكيد علي أن كل من هذه المراحل والعهود التي شهدت فيها مصر تقدماً ونهضة كانت لها مشروعها الفكري الذي مهد لهذه النهضة. فكانت شواهد مشروعنا الفكري للنهضة في مصر الفرعونية مدونة في وصايا الآلهة وأدبيات كهنة معابد آتون وآمون وفي برديات الكاتب المصري القديم ومأثورات آلهة الحكمة وكتاب الموتي ومحكمة الضمير، وكان مشروعنا الفكري للنهضة الإسلامية شواهده في حركة الترجمة والتأليف الكبري في العصر العباسي والانفتاح علي أفكار العالم وعلومه وفلسفاته والبناء عليها والإضافة لها. وكانت شواهد مشروعنا الفكري للنهضة مع محمد علي، بعثاته العلمية لأوروبا وما تلاها من أعمال وأفكار التنوير والحداثة عند رفاعة الطهطاوي ثم الكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا وشبلي جميل وسلامة موسي ويعقوب صنوع وساطع الحصري وغيرهم. ومهد لإحياء مشروعنا للتحديث والنهضة مع جمال عبد الناصر مشروعاً فكرياً استشرف آفاق العلم والمعرفة عبر المتوسط وبدءا من "في الفكر الجاهلي" و"مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين و"الإسلام ونظام الحكم" للشيخ علي عبد الرازق وعباس العقاد ومساهماته وأعمال لطفي السيد والجامعة الأهلية وجامعة فؤاد الأول وتعادلية توفيق الحكيم وأعماله وابداعاته والوضعية المنطقية وفلسفاتها عند زكي نجيب محمود واجتهادات يوسف كرم وعثمان نوية وفؤاد بدوي ومراد وهبة وعبد الوهاب المسيري وبنت الشاطئ ولويس عوض وشروحاته النقدية للتجربة الناصرية "أعمدة الناصرية السبعة". ولم نكن أبداً نحرث في البحر ولكننا كنا من هنا نبدأ مع خالد محمد خالد وكثيرون غيره أحدثوا حراكاً ثقافياً واجتماعياً اشتبك مع فكر وطني خلاق وروافد عالمية ملهمة تطلعت عبر المتوسط لحضارته وتقدمه وفلسفاته. ولم تتأخر مدرسة العلوم المصرية عن المشاركة والتأسيس، شواهد ذلك في الجمعية الجغرافية ومجمع اللغة العربية والمجمع العلمي والإسهامات العلمية الدولية لمصطفي مشرفة وعلي إبراهيم وطلعت النادي وسميرة موسي ومدرسة الري المصرية ومؤسساتها العلمية وابداعات حسين فوزي ومدرسة القصر العيني ومتاحف التاريخ الطبيعي والمتحف المصري القديم ومتحف علوم البحار وغيرها الكثير، والكثير في مسرح الكسار ونجيب الريحاني ويوسف وهبي وزكي طليمات والسكندريين العظام عبد الله النديم وسيد درويش وسلامة حجازي وبيرم التونسي ومحمود سعيد وسيف وأدهم وانلي ومئات غيرهم. كذلك كان إنتقال أوروبا من العصور الوسطي ومحاكم التفتيش والإحياء الديني إلي التنوير والرينيسانس والحداثة مهد له وسبقه مشروعا فكريا للنهضة الأوروبية في الإصلاح الكنسي والديني وفي المنهج" كانط" وفي الحرية "جون ستيوارت مل" وفي العقل "هيجل" وفي نظام الحكم والسياسة من التفويض الإلهي للحاكم إلي الشعب مصدر السلطات "هوبز - لوك" وفي العقد الإجتماعي "جان جاك روسو" و في أبو القوانين "مونتسيكيه" و كميونة باريس والكونفانسيون وافكار ديكارت من الشك إلي اليقين وفرانسيس بيكون وجوته ونيتشة والكشوف الجغرافية وكوبرنيكوس وثورة الأفلاك السماوية ونيوتن وقوانين الديناميكا ونيتشة واينشتين والنسبية وبوهر وتركيب الذرة وماكس بلانك ونظرية الكم "الكوانتم" وابداعات الكومبوزرس العظام اشتراوس وبرامز وباخ وهايدن وموتسارت وفنون ليوناردو دافنشي ومايكل انجلو ورينوار ومونييه وفان جوخ وبيكاسو وسلفادور دالي وهنري مور. لذا ما أحوجنا اليوم إلي مشروع فكري للنهضة يخاطب المستقبل ويستشرف نبوءاته بمراجعات جريئة وشجاعة للماضي والحاضر. مشروع فكري يعيد قراءة التاريخ واكتشاف الإنسان ويضع منهجاً للحياة والتقدم علي أسس العلم وقانونه ومناهجه، يحارب الخرافة ويعلن إنحيازه للعقل ويقيم مجتمع المعرفة بكل شروطه وخياراته. مشروع يقرأ واقعنا الإجتماعي وما يعانيه من تجريف ثقافي يدفع لتغييب الوعي وتدني مستويات الفكر والمعيشة، وليكن هذا هو طريقنا للخروج من الأزمة وتحقيق أهداف الثورة التي حصرها هوي النخبة في مكاسب ضيقة وانتهازية مكشوفة جعلت من التفكير في المستقبل فريضتنا السياسية الغائبة. مقال أحسب أننا بحاجة إلي إعادة قراءته بعين اليقين وعزم الرجال.