سمىر غرىب كتب حسن الحارثي مقالة بديعة مؤثرة في جريدة " الشرق " السعودية بعنوان " أعيدوا لنا مصر التي نعرف". أتمني أن يقرأها كل المصريين . كنت أود أن أعيد نشرها هنا لولا ضيق المساحة . اكتفي بنشر ختامها الموجه إلي المصريين : " إذا كانت لا تعنيكم مصر وهي تختنق، فهي تعنينا، ونبكي وجعها، فإما أن تعيدوا لنا مصر لندخلها آمنين، أو اخرجوا أنتم من مصر، واتركوها آمنة. المغزي من مقالة الكاتب السعودي هو التعبير عن افتقاد مصر التي أحبها كثير من العرب . مصر النيل والأهرامات والناس الطيبين . مصر التي جذبت كثيرا جدا من العرب للإقامة فيها . الآن مصر طاردة ليس فقط لمن يحبونها من غير أهلها ، ولكن لكثير من أهلها أيضا . فهل قامت ثورة يناير المجهضة لكي نفتقد مصر التي نحبها ؟ بالطبع لم يكن هذا هو هدف الثورة المجهضة ، ولا هدف أية ثورة . الفعل الثوري يهدف إلي تغيير جذري إلي الأفضل . حتي الآن لم يحدث هذا التغيير الجذري . المفاجأة ، ظاهريا ، أن أكبر ما فعلته الثورة التي لم تكتمل هو منح جماعة الإخوان المسلمين الشرعية والعلنية ، وتمكينها من السيطرة علي البرلمان ، وربما تمكنها من السيطرة علي منصبي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء لكي يصبح رئيس مصر ورئيس وزرائها بالإضافة الي رئيسي مجلسي الشعب والشوري من الإخوان المسلمين . أي تصبح مصر دولة إخوانية . أو دولة الإخوان المسلمين العربية . بالطبع هذا يسعد المنتمين إلي جماعة الإخوان. لكنه لن يسعد باقي المصريين. عندما جرت الانتخابات البرلمانية فازت بالأغلبية فيها الجماعات الدينية الإسلامية . فهل كانت ثورة يناير ثورة دينية ؟ بالطبع لا ، ولم يكن من أشعلوها أصلا من هذه الجماعات . بعد ذلك جرت الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية فكشفت عن مفاجأة حقيقية . لم تكن المفاجأة هذه المرة في فوز مرشح الجماعة الدينية الدكتور محمد مرسي . كان ذلك متوقعا بالنظر إلي نتيجة الانتخابات البرلمانية . لكن المفاجأة هي فوز المرشح المستقل الفريق أحمد شفيق . الذي يخوض جولة الإعادة مع مرشح الجماعة . المعني من فوز الفريق شفيق هو أن هناك ملايين البشر في مصر الذين انتخبوه لم يجدوا له بديلا بين المرشحين الآخرين ، لا مرشح الجماعة ولا مرشحين منتسبين إلي ثورة يناير المجهضة . هذه ظاهرة ذات دلالة يجب دراستها لمعرفة خفايا الباطن في الشارع المصري ، وليس الظاهر الذي تعرضه علينا وسائل الإعلام ، وبخاصة النجوم الذين تصنعهم هذه الوسائل ومنهم من تصنعهم أبطالا . فيما يبدو فإن هناك انفصالا بين وسائل الإعلام وواقع الشارع المصري . فيما تتحدث كل وسائل الإعلام ليل نهار عن تعبيرها عن الواقع . بل وتشدد علي " صدق " هذا التعبير . أنا لا أكذب وسائل الإعلام في زعمها هذا . لكن يبدو أن وسائل الإعلام لا تعرف الواقع الحقيقي . هي تعبر " بصدق " عن واقع تعرفه ليس بالضرورة الواقع الحقيقي . من هذا أذكر أن كل استطلاعات الرأي التي نشرتها وسائل الإعلام قبل جولة الانتخابات الأولي كانت تجمع تقريبا علي صدارة عمرو موسي وتأخر حمدين صباحي . فجاءت نتيجة هذه الجولة لتضع عمرو موسي في مركز متأخر وتضع حمدين صباحي في مركز متقدم . هذا الواقع هو الذي لم نلتفت إليه بما ينبغي حتي الآن وبعد أن عرفناه . ما هو المغزي من نتائج الجولة الأولي؟ المغزي باختصار واضح : هناك ثلاث قوي تغلب علي الشارع المصري هي بالتصنيف السياسي : قوي اليمين والوسط واليسار . وهي القوي التي يعبر عنها المرشحون الثلاثة الأول حسب عدد الأصوات التي حصلوا عليها في الجولة الأولي وهم بالترتيب: محمد مرسي وأحمد شفيق وحمدين صباحي . باقي المرشحين لم يفوزوا لأن تكرار لهذه الاتجاهات الثلاثة التي يعبر عنها الفائزون الأول بدرجة أكثر شعبية . هذه نتيجة واقعية ، أي تعبر عن الواقع وتكشف عنه . أي أن أغلبية الشعب المصري ذات اتجاهات محافظة ووسطية . هذا يوضح أحد أهم أسباب إجهاض ثورة يناير . كنت كتبت سلسلة مقالات في هذا المكان بعنوان " في ذكري ثورة مجهضة " نشرت في يناير الماضي ، حاولت فيها تحليل اسباب إجهاض الثورة . كان علي أن أنتظر نتائج الانتخابات الرئاسية لكي أتوصل إلي هذا السبب المهم . اليمين عادة لا يقوم بثورات ، وبخاصة إذا كان يمينا دينيا . وحتي اليمين المتطرف لا يقوم بثورة، ولكنه يشن حربا مسلحة أو يقوم بعمليات إرهابية . لذلك فلا علاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وبين ثورة يناير . لم تدع الجماعة السلفية أصلا علاقتها بهذه الثورة . الذي حدث كما كتب غيري وكتبت أكثر من مرة أن طليعة من الشباب الثائر المستنير المتعلم خاضوا نضالا سلميا ضد نظام الرئيس السابق منذ عدة سنوات قاد إلي قيام ثورة شعبية ضده في نهاية يناير 2011 . بعد أن هدأت أحداث هذه الثورة وتم إجهاضها عاد المصريون إلي واقعهم المتخلف . كانت أيام الاعتصام في ميدان التحرير حتي 11 فبراير 2011 خروجا علي هذا الواقع واستثناء منه . بعدما عاد المعتصمون إلي بيوتهم عادوا إلي ممارسة حياتهم الواقعية بكل مظاهرها ومشاكلها . وعندما دخلوا انتخابات حرة عبروا عن أنفسهم وعن واقعهم فجاءت نتيجة الانتخابات معبرة عن هذا الواقع . هذا قانون علمي أو طبيعي . فالحصاد من جذر البذرة . ومن أعمالكم سلط عليكم . المشكلة أنه لا يمكن لنا أن ندور في فراغ . الفراغ نفسه غير موجود بالتفسير العلمي . فإما أن نتقدم أو نتأخر . فمن يعمل من أجل تقدم مصر ؟