سأظل أقول دائما إذا كانت حاجتنا إلي التثوير شديدة فإن حاجتنا إلي التنوير أشد، وأقوي مصادر التنوير والاستنارة هو الحوار والجدل وثقافة الأسئلة، وهي رموز لقيم انفرط عقدها إلا قليلا، خاصة في حالة السيولة والدوران في مشهد ثابت والتوهان المستمر. وما أقسي التوهان في عصر الاستعارة. أقول قولي هذا وأنا أحدق في تعليقات ثلاثة حول ما كتبته الأسبوع الماضي تحت عنوان" عفوا د. محمد البرادعي"منتقدا ما جري أثناء اعلانه عن حزب الدستور في رحاب نقابة الصحفيين التي تفتح عنفوان قاعاتها لكل الاتجاهات التي يفور بها المجتمع، سلبا- وما أكثره - وإيجابا- وما أقله، وقلت ضمن ما قلت إن د. البرادعي كان يبكي علي الأطلال، ولم يقدم رؤيا ولا رؤية للحزب الا أنه يعد كوادره لتولي السطة المطلقة رئاسة وبرلمانا ومجالس شتي وكل ما يمكن) التكويش عليه مثل غيره مما يسمي بالقوي السياسية، وهمية كان أم حقيقية، وقلت ان المؤتمر بدا وكأنه مظاهرة هتاف للدكتور البرادعي وأعوانه، فأفسدوا الجلسة بالصراخ والصداع والصراع وساعدهم هو علي ذلك بالتحريض ضد كل شيء في البلد، وتزامن بعده بساعات التطاول الغبي والأهبل من قبل السوقة والرعاع والغوغائية علي رمز العسكرية المصرية. فأما التعليق الأول فهو من العالم د. خيري مقلد عميد طب عين شمس السابق، والسياسي الذي كان ضحية غباء بعض سياسات الفترة الماضية، انه يقول كنا نتمني أن ترتقي الجلسة إلي المتطلبات الهامة للحظة الفاصلة في تاريخ مصر، وان تصل إلي منطقة الكمال السياسي في مخاطبة الشعب، لاسيما أن السادة الحضور كانوا علي مستوي رفيع من الرؤية، لكن التحفظ كان علي الأدعياء الذين هاجموا كل شيء ، في الماضي والحاضر والمستقبل، كان ينبغي أن يتحدث د. البرادعي عن الآليات التي يتمثلها لنجاح الحزب، لا أن يحدثنا عن كيفية سيطرة الحزب علي الحكم، فليس من يطلب الحق فيخطئه، وليس من يطلب الباطل فيصيبه، وكنا نريد إضاءة الطريق بالرؤية والعمل من أجل مصر، غير أن من الجوانب المضيئة التأكيد علي مدنية الدولة ووضع دستور يمثل جميع طوائف الشعب، وأن يتم انتخاب رئيس محترم وعادل. أما التعليق الثاني فطارحه المفكرالإستراتيجي اللواء أركان حرب د.فريد حجاج، الذي يعلن دائما شعار" مصر في خطر" في كل أحاديثه وكتاباته، مهموم هو إلي أبعد مدي بهذه القضية الخطرة، محذرا أكثر منه مبشرا، إذ يقول: وماذا كنت تتوقع من شخص مثل د. البرادعي أن يفعل إلا أن يشعل المزيد من النيران، وإقصاء الآخرين، فهو لا يفترق عن اللاعبين علي الساحة التي تعج بالحقد وعدم حب البلد، ولا يهمهم إلا مصالحهم فقط، ولا أحد يريد أن يعبر إلي المستقبل، مقدرا خطورة اللحظة الحرجة التي تمر بها مصر، ويدعو الرجل الذي هو أحد أبطال حرب اكتوبر العظيمة الي الانتباه لخطورة ما يحدث ليس فقط من البرادعي بل أيضا من كل القوي المتصارعة علي كرسي السلطة والحكم. يبقي التعليق الثالث للدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي الأستاذ بجامعة القاهرة، حيث يعتب علي كاتب هذه السطور مدي قسوته في الحكم القيمي علي د. البرادعي، مطالبا بإعطائه الفرصة ليقدم مشروعه الحزبي، فالبلد يحتاج مثل هذا التوجه، فكل حزب جديد هو إضافة للحياة السياسية، وأعتقد أن حزب الدستور الذي أعلن عنه د. البرادعي سيكون إضافة هامة، ويتساءل: ما الضير أن يربي الرجل من الآن كوادره الحزبية لتولي شئون الحكم؟ ألم يفعل الإخوان المسلمون ذلك؟ اتركوا الفرصة للرجل، فنحن نحتاج مثل هذا الفكر المدني أكثر من غيره ، ولا يضير المشروع هتافات البعض، أليس من حقهم التعبير عن أنفسهم؟. تلكم وجهات نظر بعض من أهل الذكر، وهي في كل لأحوال تحمل منظورهم، وكم نحتاج إلي مثل هذه الأطروحات بعيدا عن الصراخ والصداع والصراع وغير ذلك مما لا يغني ولا يسمن، ولكن يزيد الأجواء ضبابية واشتعالا، شكرا لكل صاحب رأي ورؤية. نفسي الأمارة بالشعر حتي متي ستظل تحكمنا القبور وتظل تنهشنا الجثث...؟ وإلي متي سيطن في آذاننا وقر الجيف؟ وإلان تلك الرائحة .... ستظل تزحف في شرايين المصير؟