إن ارتجالية المشهد السياسي وارتباكه علي النحو الذي تمر به البلاد هو نتاج طبيعي لالتباس العديد من العوامل المختلفة ومحاولة المزج بين الشرعية الثورية والشرعية القانونية اللازمة لاقتلاع جذور النظام السابق واتخاذ الخطوات اللازمة لعملية الاصلاح السياسي وانزال العقاب علي كل من عبث بأمن مصر القومي وافسد الحياة السياسية ودمر مقوماتها الاجتماعية والاقتصادية. فنحن امام ثورة لم تكتمل ويلزم حمايتها وتوفير المناخ المناسب لها لتحقيق الاهداف المرجوة منها فمن غير المقبول ترك عناصر النظام السابق تعبث في الارض فسادا وتقود الثورة المضادة بل تسعي نحو قيادة البلاد بحجة تحقيق اهداف الثورة. وهو ما يلزم معه اتخاذ جميع القرارات الثورية الضامنة لاستكمال مسيرة الاصلاح وهي ليست بدعا من صنع الثورة المصرية وانما هي سنة تواترت عليها جميع الثورات مثل المانيا عقب سقوط الحكم النازي وعقب الثورة الفرنسية وفي مصر عقب ثورة 1952 المجيدة بيد أن الامر يختلف في الوقت الراهن فمن غير المقبول عقلا أو قانونا ان يتم الباس جميع القضايا الثورية والسياسية ثوب القانون العادي والاحتكام الي القضاء الطبيعي. فمن شأن ذلك احداث فجوة شاسعة بين طموحات المواطن وشرعية ما تم من اجراءات وهو ما تجسد جليا في العديد من القضايا السياسية والتي اثارت جدلا عميقا في الشارع المصري مثل حل الحزب الوطني وحرمان اعضائه من الترشح للبرلمان ودعوي بطلان البرلمان وحل الجمعية التأسيسية واخيرا قانون حرمان رموز النظام السابق من الترشح لانتخابات الرئاسة والذي تعرض للنقد القانوني اللاذع فالقواعد القانونية تتسم بالعمومية والتجريد دون ان توجه لشخص بذاته. وهو ما يتعارض مع تفصيل القوانين علي مقاس شخص معين فضلا عن كونه انتهاكا دستوريا فالحرمان من مباشرة الحقوق السياسية عقوبة ولا عقوبة ولا جريمة الا بنص قانوني ثابت وبحكم القضاء بما يقطع بحدوثها علاوة علي الاخلال بحق المساواة بين جميع المصريين في الحقوق والواجبات. وهو ما يضع ذلك القانون في مرمي نيران البطلان لعدم دستورية ويلقي بعبء التصدي له علي عاتق القضاء والذي تحكمه قواعد الشرعية الدستورية لا الثورية. ومن ثم كان يتعين اصدار القرارات الثورية اللازمة لتطهير البلاد علي ارث النظام السابق باعتبارها الاليات المناسبة في الوقت الراهن. اما القوانين العادية فهي صالحة للتطبيق في الظروف العادية وليس الاوضاع الاستثنائية فهي مقصورة عن تقديم الحلول العاجلة الفاعلة لتحقيق اهداف الثورة علي نحو يلقي القبول لدي المواطن المصري بدلا من ذلك الصدام بين نبل الغاية وسوء التنفيذ. وهو ما يصدق ايضا علي المحاكمات الجنائية للنظام السابق والتي تحملت عبأها مؤسسة القضاء العادي وتم توجيه سهام التباطؤ والتواطؤ اليها اذ كان الاجدر هو تشكيل محاكم ثورية وسياسية تضطلع بتلك المهمة فآليات العمل القضائي تحكمه قوانين واجراءات لا يجوز الانحراف عنها سواء ما تعلق منها سماع مرافعات المتهمين أو المدعين بالحق المدني أو النيابة او الشهود أو ندب الخبراء وفحص الاحراز فضلا عن اساءة استخدام حق رد المحكمة اكثر من مرة بهدف احالة امد التقاضي انتهاء بالطعن علي الحكام الصادرة فيها وكلها اجراءات وقواعد ترتبط ارتباطا وثيقا بتحقيق العدالة. الا انه وبالنظر الي طبيعة المرحلة الثورية التي تجتازها البلاد وما ينتظره المصريون من سرعة ناجزة في القصاص.. فقد كان من الاجدر تشكيل المحاكم الثورية للقيام بتلك المهمة. ان تصدير القضاء العادي والقوانين التي تحكمه في واجهة المشهد السياسي ووضعه علي خط المواجهة مع متطلبات الثورة وطموحات الشعب غير كاف لادارة المرحلة الانتقالية ما لم يتم الاعتماد الكلي علي آليات العمل الثوري بالقدر الذي يضمن تحقيق اهداف الثورة في اطار من التوازن مع الشرعية الدستورية والقانونية.