كان العرب السنّة أكثر الاطراف العراقية إصراراً علي رفض أي حديث عن اعتماد الفيدرالية في حكم البلاد سواء في المحافظات ذات الأغلبية السنية أو المحافظات ذات الأغلبية الشيعية. بل وأعلنوا بكل صراحة انهم ضد فيدرالية الاكراد أيضاً لانها تؤدي الي تقسيم البلاد علي أساس عنصري. والمفارقة اليوم ان المحافظات ذات الأغلبية السنية هي التي تطالب بالفيدرالية، بينما الحكومة المركزية ترفض ذلك وتعتبره خطاً أحمر علي الرغم من ان نوري المالكي رئيس الوزراء الحالي كان من المتحمسين للفيدرالية في الدستور الذي وضعته الاحزاب القادمة الي العراق علي الدبابات الاميركية. وكنت أحد الذين قادوا حملة إعلامية بلا هوادة في الداخل والخارج ضد مشروع فيدرالية البصرة قبل ثلاثة أعوام التي كان يقف وراءها النائب وائل عبد اللطيف، وهو أحد وجوه التحالف الشيعي الحاكم. وقد إعترف النائب المذكور في الصحف والقنوات الفضائية بعد ان رفض أهل البصرة مشروع الاقليم "ان داود الفرحان، هو سبب فشل هذا المشروع الفيدرالي". وهذه، كما يقال، تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه. فالفضل في رفض فيدرالية البصرة هو لأهل البصرة أنفسهم الذين لم يصوتوا للمشروع وأسقطوه بالضربة القاضية. وحين دعا سكان المحافظات ذات الاغلبية السنية (نينوي وصلاح الدين وديالي والانبار) الي قيام أقاليم فيدرالية في هذه المحافظات للافلات من التمييز الطائفي والقمع الذي تمارسه الحكومة الطائفية وميليشياتها ضد المواطنين السنة، وقف السياسيون الوطنيون ضد هذا المشروع أيضاً رغم وجاهة أسبابه. فالمسألة بالنسبة للعراقيين الوطنيين ليست شيعة وسنة وأكراداً. المسألة هي مصير وطن ووحدة شعب وتاريخ حضارة ممتدة الي سبعة آلاف عام. لكن الناظر الي المسألة في الخارج من بعيد، مثلي ومثل غيري، يري المشهد ببعد واحد، بينما الذين في الداخل يرونه بأبعاده الثلاثة. وهي صورة أكثر تجسيماً وواقعية ومأساوية.. ونحن، نشاء أو لا نشاء، مرغمون علي استخدام تعبيرات طائفية كنا وسنظل نرفضها، ونعتقد ان العصر قد تجاوزها ولم تعد الا من مخلفات عصور التخلف والبدع التي نمت وترعرعت وصارت طقوساً غريبة برعاية عنصرية غير عربية تدفعها الي السطح نوايا مشبوهة ويصدقها الناس الذين تُسيّرهم عقلية القطيع.. المشهد الراهن في العراق سوداوي، ودعوا عنكم بهرجة وبذخ القمة العربية في بغداد، وهو درس لأنظمة الربيع العربي كي لا تكرر تجربة العراق المحتل الطائفية. فهناك تمييز طائفي تطور ليصبح تمييزاً عنصرياً تحرمه الاممالمتحدة وقوانين حقوق الانسان. فالعراقيون السنّة يتم حرمانهم من الوظائف المهمة في الحكومة والجامعات والجيش والامن. وكذلك المسيحيون والصابئة واليزيديون والأرمن. وقرأت قبل أيام تقريراً صادماً، فبغداد تبدو الآن أشبه بمدينة شيعية، رغم انها كانت قبل الاحتلال عاصمة عراقية لكل العراقيين مع انها مدينة ذات أغلبية سنية، ليس بسبب النظام الذي كان قائماً وأسقطه الاحتلال الامريكي، ولكن لان تركيبتها السكانية كانت كذلك منذ تأسيسها علي يدي الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور والي سقوط النظام السابق. أسسها السنّة وسكنوا فيها وتوارثوها جيلاً بعد جيل ونظاماً بعد آخر، وعاش فيها بنفس مقاييس الحقوق والواجبات الشيعة والمسيحيون والأكراد الي ان جاء الاحتلال الامريكي الايراني. لقد تمت إعادة تسمية الشوارع والجسور والميادين والمدارس باسماء رجال الدين الشيعة. وترفرف رايات الشيعة السوداء والخضراء والحمراء في كل مكان، وتنتشر ملصقات وجداريات ضخمة لرجال الدين الشيعة في مواقع بارزة وعلي جدران المباني الحكومية. وهو أمر من باب تذكير كل السكان "ان الحكم صار شيعياً بعد ان كان سنياً"! والحقيقة انه لم يكن سنياً ولكنه كان بعثياً، والبعثيون أكثريتهم من الشيعة غير الطائفيين. ولم يكن النظام طائفياً ولكنه كان وطنياً. ومن الظلم ان تحسب دكتاتورية النظام السابق علي السنة في العراق، لانها يجب ان تحسب علي رئيس النظام السابق وحده. ويكفي ان نكشف ان أكثر من عشر محاولات فاشلة لقلب نظام الحكم السابق في العراق خطط لها ونفذها ودفع ثمنها ضباط وسياسيون ومثقفون وعلماء سنّة. وعودوا في هذا الي أحد كتب برزان ابراهيم التكريتي الاخ غير الشقيق لرئيس النظام السابق صدام حسين.. لقد كان أحد عناوين صحيفة "الشرق الاوسط" اللندنية قبل أيام "مظاهر الفصل الطائفي تزداد انتشاراً في العراق". فغير الشيعة يشكون من التمييز في كل مناحي الحياة. ويتحمل مسؤولية ذلك رئيس الوزراء العراقي الحالي شخصياً وليس الأخوة الشيعة. انه درس يجب ان لا يغفله المتنافسون علي الحكم في دول الربيع.. الذي كان!