باتت لغة التهديد الطائفي لغة يومية في العراق. السيد أبو مصعب الزرقاوي، زعيم ما يسمي بقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، يعلن الحرب علي شيعة العراق، داعياً إياهم إلي التبرؤ من الحكومة الحالية أو مواجهة الموت. ولأن مخطط الزرقاوي هو دفع العراق إلي الحرب الأهلية، فسرعان ما قامت منظمته بإرسال متفجرة عشوائية إلي حي الكاظمية، موقعة ما يزيد عن 120 قتيلاً في صفوف عمال عراقيين شيعة فقراء، ينتظرون فرصة عمل علي قارعة الطريق. خلال الأيام القليلة التالية، تعرضت أهداف شيعية أخري، بما في ذلك حسينية في مدينة طوزخورماتو، لتفجيرات دموية أوقعت العديد من الضحايا. وبينما يكشف الزرقاوي نواياه بوضوح يحسد عليه، فإن وزير الداخلية العراقي باقر صولاغ، وعناصر منظمة بدر التي تقود وحدات أمنية رسمية بأكملها، تقوم في صمت وبلا إعلان، بما يقوم به الزرقاوي، تاركة وراءها سيلاً من جثث العراقيين السنة. في المدائن، الحويجة، القائم، والفلوجة، تختطف قوات وزارة الداخلية عراقيين سنة، ليجدهم ذووهم بعد ساعات أو أيام جثثاً اخترقها الرصاص، تشوهها بقايا التعذيب الوحشي. ثم جاءت الهجمة الأمنية العراقية الأمريكية علي تلعفر، مستهدفة الأحياء العربية السنية في المدينة، بدون ان تسمح لوسائل الإعلام برصد سير العمليات. وكانت هذه الحملة هي التي استخدمها الزرقاوي مبرراً لإطلاق حملته الطائفية. تصاعدت مظاهر التوتر الطائفي في العراق منذ الأيام الأولي للاحتلال. وليس هناك من شك في ان هذا التوتر قد بدأ باستهداف سافر للسنة العرب والمواقع السنية، وان عناصر القوي الشيعية العائدة من الخارج، مثل المجلس الأعلي والدعوة، وعناصر وقوي أخري أقل أهمية، لعبت دوراً لا يخفي في تشجيع العامة علي الاستيلاء علي مساجد وأوقاف سنية في بغداد والبصرة ومدن الجنوب المختلفة، وعلي نهب دوائر الأوقاف السنية. روجت هذه القوي لخرافة الربط بين نظام صدام حسين والسنة العرب، ولتصوير احتلال العراق باعتباره هزيمة للسنة ونهاية لدورهم في العراق. كان لسان حال هؤلاء يقول ان السنة العرب قد هزموا، وقد جاء وقت تحميلهم وزر جرائم النظام السابق والاقتصاص منهم. والمدهش ان أياً من كبار العلماء الشيعة في النجف لم يصرح ولو بكلمة شجب واحدة لأحداث الاستيلاء علي المساجد والأوقاف السنية، أو الاعتداء علي الأسر والشخصيات السنية في الجنوب. خلال أسابيع قليلة من الاحتلال اندلعت المقاومة؛ وبدأت حملة لا أول لها ولا آخر لوضع هذه المقاومة في كل إطار ممكن إلا إطار رد الفعل الوطني الطبيعي. وقد استبطن الخطاب المناهض لقوي المقاومة هو الآخر توجهاً طائفياً. فالمقاومة يمكن ان تكون بعثية، صدامية؛ تعبيراً عن إحساس السنة بالخسارة، محدودة بالمثلث السني، سلفية تكفيرية، ... وهكذا. ولم يكسر حدة هذا الخطاب (وإن لم يضع نهاية له) إلا القبض علي الرئيس العراقي السابق، الفشل الذريع في هزيمة قوي المقاومة، مناهضة التيار الصدري للاحتلال خلال العام الماضي، وانضمام عدد من كبار العلماء المسلمين الشيعة، مثل الشيخ الخالصي وآية الله البغدادي، إلي المعسكر الوطني السياسي المعارض للاحتلال. ولكن العراق الجديد كان يبني من قواعده علي أساس طائفي؛ فقد تكون مجلس الحكم طائفياً، شكلت الوزارات المؤقتة طائفياً، كون الجيش الجديد طائفياً، كتب قانون إدارة الدولة طائفياً، وزعت مقاعد البرلمان المؤقت طائفياً، وكتبت مسودة الدستور الدائم طائفياً. وفي خلفية هذا كله بدأت حملة من الاغتيالات المشبوهة التي طالت علماء وأساتذة جامعيين وكوادر بعثية سابقة. بعض هؤلاء كانوا عرباً شيعة، وأغلبهم من السنة. وعندما لم يتحرك أحد لوضع حد لهذه الجرائم، أخذت الحملة تتسع لتطال أئمة مساجد وعلماء سنة، أحدهم كان شقيق الشيخ حارث الضاري، الأمين العام لهيئة علماء المسلمين، إضافة إلي أبرز علماء السنة في مدينة الموصل. العراقيون يعرفون بعضهم البعض، وفي العراق يصعب إخفاء كل الحقيقة كل الوقت. ولم يمر وقت سريع حتي بدأت الأصابع تشير إلي الدور الذي تلعبه منظمة بدر في هذه الحملة؛ إلي ان وجهت هيئة علماء المسلمين الاتهام إلي بدر رسمياً. ولكن الجانب السني لم يتعامل مع حملة الاغتيالات بصبر وسياسة؛ فقد بادر هو الآخر إلي الرد باغتيال عناصر من مستويات مختلفة من منظمة بدر. ولكن المشكلة الكبري كانت في تسليم مقاليد وزارة الداخلية لباقر صولاغ، أحد قياديي المجلس الأعلي، والصعود الحثيث في قوة ونفوذ جماعة الزرقاوي. إن كان المجلس الأعلي قد انقلب بعد احتلال العراق إلي قوة طائفية بحتة، فإن صولاغ يمثل أكثر وجوه المجلس طائفية. وربما سينظر يوماً إلي توليه وزارة الداخلية في هذه الفترة الحرجة من تاريخ العراق باعتباره كارثة علي استقرار العراق ووحدة شعبه. لم يفرغ صولاغ وزارة الداخلية من الطابع الوطني الذي حاولت وزارة علاوي إضفاءه عليها فحسب، بل قام أيضاً بدفع العشرات من كوادر بدر والمجلس الأعلي إلي العديد من المواقع الحساسة في الوزارة. خلال الشهور القليلة الماضية، تحولت وزارة الداخلية إلي وزارة طائفية شيعية يقودها وزير وموظفون وضباط ينتمون في أغلبهم لحزب واحد. ومن الصعب تصور وقوع، وتكرار وقوع، حوادث الخطف والتعذيب البشع والقتل الجماعي التي تقوم بها عناصر تنتسب إلي وزارة الداخلية بدون وجود ضوء أخضر من الوزير أو كبار مساعديه. وليس هناك من شك ان هذه الحوادث جميعها طالت وتطال عراقيين عرباً سنة. بعض هذه الحوادث استهدف عناصر يشتبه بانتمائها للمقاومة؛ أخري حملت طابع الانتقام والحقد الأعمي؛ وبعضها كان جزءاً من مخطط تطهير طائفي واضح المعالم. وعلي الجانب الآخر كانت قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين ، التي يقودها أبو مصعب الزرقاوي، تزداد قوة وانتشاراً. ومن الصعب في ظل الظروف الحاضرة تحديد الأسباب التي أدت إلي هذه الصعود المفاجئ في نفوذ الزرقاوي وجماعته. ولكن أحد هذه الأسباب كان بالتأكيد التركيز الإعلامي الكبير الذي صبته السلطات الأمريكية والعراقية المتحالفة معها علي الزرقاوي، والمبالغات الهائلة في حجم وجوده في العراق وفي حجم المتطوعين العرب في صفوف جماعته. مهما كان الأمر فإن جماعة الزرقاوي أعلنت منذ البداية ان أهداف نشاطاتها تشمل لا القوي المحتلة فقط بل والعراقيين المتعاونين مع الاحتلال أيضاً، بما في ذلك رجال الحرس الوطني والجيش العراقي الجديد. ولما كانت أغلبية عناصر قوات الأمن العراقية الجديدة هي من العرب الشيعة، لاسيما تلك المنتشرة في المناطق ذات الكثافة العربية السنية، فقد أصبح لاستهداف رجال الجيش والحرس والشرطة دلالة طائفية. وعلي أية حال، فإن الزرقاوي لم يخف توجهاته المعادية للشيعة والتشيع، كما لم يخف استهتاره بالقيادات الإسلامية العراقية المخالفة له الرأي، حتي تلك المناهضة للاحتلال مثل هيئة علماء المسلمين. وإن كانت معظم عمليات الاغتيال التي نفذت ضد عناصر سياسية شيعية يعزي لجماعة الزرقاوي، فإن بيانه الذي أعلن فيه الحرب علي الشيعة في عمومهم، الصادر بعد الحملة علي تلعفر، لم يترك مجالاً للشك في حقيقة توجهاته. ما الذي يدفع أمثال صولاغ والزرقاوي إلي تأجيج المشاعر الطائفية؟ في العراق المحتل، أصبحت الطائفية سلاحاً سياسياً فعالاً لقوي لم تكن تملك جذوراً عميقة في العراق، مثل المجلس الأعلي. بإثارة العصبية الطائفية، وتقديم رؤيتها للمستقبل باعتبارها طريق الخلاص لشيعة العراق، حاولت قيادات المجلس ان تصبح ممثل الشيعة والناطق باسمهم. ولكن أهداف المجلس لا تقف عند هذا الحد؛ إذ ليس هناك من شك ان المجلس وعدداً آخر من القوي والقيادات الشيعية تري مستقبل العراق السياسي من منظار طائفي بحت. مسكونة بسلسلة من الأساطير حول تاريخ العراق وتكوينه البشري، تسعي هذه القيادات إلي تكريس سيطرة شيعية علي العراق، تتمثل في حكمها هي وسيطرتها هي. الشيخ القبنجي، أحد قيادات المجلس الأعلي، وجه نداءه في خطبة الجمعة (16 من الشهر الجاري) بالنجف إلي القوي العراقية الشيعية، داعياً إياها إلي الوحدة والصبر لأن النجاح بات قريباً. القبنجي، كالآخرين من قيادات المجلس، لا يتطلع إلي نجاح للعراق كله، للعراقيين جميعاً، بل للخط الطائفي الذي يمثله. هذا الخط يتطلب صفقة مع الأكراد، إطاحة بالسنة العرب، فصل العراق عن محيطه العربي (الذي يري طائفياً باعتباره سنياً)، نشر الرعب والخوف في أوساط السنة العراقيين ودفعهم إلي الهجرة، بل والتطهير الطائفي. وفي النهاية، وإذا فشلت حملات سحق المقاومة، فإن الفيدرالية ستفتح الطريق إلي الانقسام. أما الزرقاوي فيري الطائفية من زاوية أخري. يعيش الزرقاوي، وعدد من قادة القاعدة، هاجس إشعال ثورة شاملة في العالم الإسلامي، والمنطقة العربية منه علي وجه الخصوص، تكون القاعدة طليعتها. وقد أتاح التورط الأمريكي في العراق فرصة هائلة لتحقيق هذا المشروع. ولكن المشكلة ان القاعدة فشلت خلال السنوات الثلاث الماضية في ان تصبح القوة القائدة للمقاومة العراقية، أو ان تحقق التفافاً عراقياً جامعاً حولها. الخطاب الطائفي وادعاء الدفاع عن سنة العراق والثأر لضحاياهم هو أسهل الطرق نحو هذا الهدف. كما في كل الحروب الأهلية، لاسيما الطائفية منها، تلتف الطوائف حول من يتحدث باسم ثارات الطائفة ويدافع عن مصالحها الوهمية. والحرب الطائفية في العراق لن تقتصر علي العراق، بل سرعان ما ستشعل نيرانها المشرق العربي الإسلامي كله. بذلك تتحقق ثورة القاعدة الشاملة، ولو علي حطام اللحمة الوطنية العراقية. في فترات الإضطراب وعدم الاستقرار والخوف، يلجأ الناس إلي الروابط الأصغر والأكثر يقيناً بحثاً عن الطمأنينة والحماية. وهذا ما فتح كوة صغيرة للخطاب الطائفي في العراق المحتل. والقيادات السياسية التي تستغل هذه الحقبة الانتقالية الصعبة في تاريخ العراق من أجل حمل طموحاتها ومشاريعها علي أمواج الطائفية ترتكب جرماً تاريخياً بالغاً في حق العراق والعراقيين. ولكن لا صولاغ ولا الزرقاوي سينجحان في إشعال حرب طائفية؛ فالعراق لم يعرف مثل هذه الحرب في تاريخه كله، ولا يبدو سنته او شيعته اليوم في مزاج من الحرب الطائفية. الخطر الكبير الذي يتهدد العراق وشعبه ليس احتمال الاستجابة لسياسات صولاغ والزرقاوي، بل خطر التقسيم المستبطن في مشروع الفيدرالية. الفيدرالية هي طريق تقسيم العراق وتأسيس طبقات سياسية توحدها بالكيانات الصغيرة الامتيازات والمصالح. والفيدرالية هي طريق التطهير الطائفي، وتحويل أوهام التاريخ إلي سلاح يستبيح الوطن والأهل ويفتك بهما معا . القدس العربي 22 سبتمبر 2005