إن عاجلا أو آجلا ستطوي البشرية صفحة النفط .. عند نقطة ما من الزمن، وقبل ان تغرب شمس القرن الحادي والعشرين، تبدأ حقبة ما بعد النفط لترسم ملامح مختلفة لعالم أدمن استهلاك الذهب الاسود، ليس فقط كونه مصدرا للطاقة- بل المصدر الرئيسي لها- ولكن باعتباره المادة الأكثر نفوذا في معظم الصناعات، والتي يعتمد عليها الانسان في تأمين وتوفير احتياجاته المتنوعة، ربما بدرجه لا يتصورها! العديد من المنتجات الصناعية والزراعية تعتمد بشكل أو بآخر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة علي احد مشتقات النفط لتصنيع مايعجز صاحب الخيال الخصب عن ادراكه؛ من الاجهزة الي السيارات، من المفروشات الي الاسمدة والمبيدات و...و... ومن اقل الاشياء بساطة الي اعقدها. باختصار يمكن القول ان الحضارة في طبعتها الاخيرة، وحتي الآن، مدينة بالكثير من انجازاتها للنفط، من ثم فإن اكتشافه والتوسع الهائل في استخداماته مثل مرحلة غير مسبوقة في التطور الانساني، وبالتالي فإن مرحلة ما بعد النفط جديرة بالتفكير والاعداد الجيد، حتي لا تكون قفزة الي عصر يكتنفه الصعاب. ربما يولد المشهد قدراً من الفزع، لكن قدرة الانسان علي التكيف مع المتغيرات والمستجدات منذ فجر التاريخ، تدعو في النهاية للاطمئنان ما دامت الارادة الانسانية سوف تسعي لرسم ملامح تتناسب مع عالم يتواري فيه النفط، بعد ان ينتصر قانون الندرة، ويصبح علي اجيال قادمة الاعتماد علي بدائل قد تكون حتي اللحظة في رحم الغيب! السيارات، القطارات، الطائرات، السفن.. يعتمد السواد الأعظم منها علي النفط، بينما يزاحمه علي استحياء اجيال من وسائل النقل التي تعتمد علي انواع من الوقود غير التقليدي، وثمة خطط طموحة للتوسع في انتاج مركبات لا تحتاج في تشغيلها الي أي من مشتقات النفط، ولكن الامر علي صعوبته وبطئه يصبح يسيرا اذا ما تم قياسه علي تلك القطاعات من الاقتصاد التي يمثل النفط بالنسبة لها ما تمثله الروح للجسد، ليس باعتباره مصدرا للطاقة اللازمة لتشغيل خطوط الانتاج، ولكن كمادة أولية لا غني عنها، ولا بديل امثل لها حتي اليوم والغد!!. تلك هي المعضلة التي يجب علي الانسان ان ينام ويصحو مهموما بالبحث لها علي مخارج وحلول.. ولعل مما يزيد من صعوبة المواجهة ان البشرية لم تمر في السابق بخبرة مشابهة. عصر ما بعد النفط، يحتاج الي طاقات ابداعية وقدرات ابتكارية غير عادية حتي لا يتعرض مستقبل الحضارة الانسانية لانتكاسة، وقد يفكر البشر في مزيد من الاعتماد علي مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة ليس حفاظا علي البيئة والصحة، ولكن بهدف توجيه النفط، أو بدقة ما تبقي من احتياطاته الي تغذية الصناعات التي تعتمد علي مشتقاته في دوران عجلات انتاجها. ولاشك ان ذلك سوف يتطلب اعادة النظر في العديد من الانماط الحياتية سواء الاساسية منها كنقل البشر والبضائع، أو الترفيهية كالسياحة مثلا، ومرورا بتصميم المدن والمباني علي تعدد اغراض استخدامها حتي يتم تجهيزها للاعتماد علي مصادر للطاقة غير التقليدية، والاستغناء عن النفط عند امدادها بالكهرباء، ووصولا الي ضغط استهلاك الطاقة المستمدة من مصادر عالية الكلفة قياسا علي ما كان عليه الامر بالنسبة للنفط. وفي المحصلة النهائية، فإن وصول الانتاج النفطي الي مرحلة يبدأ فيها بالتناقص، ثم النضوب التدريجي، يعني ان وجه العالم سوف تكسوه ملامح جديدة قد يصل بعضها الي حد القطيعة مع ما ألفته البشرية لعقود طويلة. ومن الآن حتي يواجه الانسان تلك اللحظة، عليه ان ينتج من الافكار مايعينه علي ان تكون ملامح العالم بعد غد اكثر قبولا، وألا تجعله ينعي عصر النفط ويبكي علي اطلاله.