منذ أربعين عاماً وأنا أتذكر كل الاشياء المبهجة في نفس اللحظات وكأن الزمان يعيد نفسه، عندما كان يدخل أبي علينا بعددنا من فوانيس رمضان وعلب الشمع العديدة كي تكفينا طوال الشهر، وصوت عبد المطلب يأتي من البيوت الدانية والقاصية نسمعه يعانق المذياع في بيتنا الكبير، بعد ثوان قليلة من سماعنا بيان المفتي الذي كان صوته متهدجاً وقوراً فيه نبرات السعادة المطلقة.. فنسمع أهلاً رمضان كأنه عناق بين الاصوات الجادة واللاهية، لقد جاءنا فعلاً، كأنه فيض من أنوار مسرورة تخطر علي أبواب الحارات والشوارع، لا شئ يستطيع أن يعبر عن حالتنا الآن، غير هذه الابداعات الانسانية الرفيعة التي مزجت كيانها بلحظات آسرة رقراقة ليست ككل الزمان، فطبلة المسحراتي تلهمنا المحاكاة فكنا نعد جميعاً - أطفال - البلدة هذه الطبول الدقيقة لننقرها بعصي صغيرة، ننتظره بالطبع علي التقاطعات والنواصي لنمشي وراءه ونكرر ما يقول، نشعل الفوانيس لنستغني عن اعمدة الكهرباء، بل كنا نطلب من عمالها أن ينزعوا عنها المصابيح حتي يفسحوا لضوء الفوانيس ان يفيض، هذه الليلة لا أحد ينام حتي الجد والجدة، ننظر كلنا مجئ هذا اليقظان الدائر بالدعاء يتفتح من حنجرته إلي دعوتين، لليقظة الحسية والانتباهة الروحية، ألا تدعوا هذه اللحظات تفوتكم، فقد اشرق كل شيء حتي الاحجار والأشجار وذرات الاثير التي تنفذ إلي الصدور، ومنذ هذه الأوقات المباركة لم يغب الخيال الوثاب عن افقي، اجتماعنا حول مائدة السحور بذات القدر في اجتماعنا حول مائدة الافطار، ليس لاحد ان يتغيب مهما كانت الاسباب، كان جدي يراجع الاسماء واحداً، واحداً ويشحذ الهمم حتي نتغذي من طعام السحور فهو بركة لا تعرفون قدرها، ثم هذه اللحظات التي امتلأت بما لا يقدر القلب علي تحمله حيث يهيم فيها كأنه الصوفي الوله علي أعتاب الحبيب، حين يمضي الوقت طيباً رخياً بموجبات من السكينة تنساب إلي صلاة العصر، فيخرج الجد أمامنا بلباسه الازهري الجميل، ويؤمنا في المسجد المجاور للصلاة، حتي إذا مالت الشمس إلي المغيب، انتظرنا صوته ذلك الذي امتزج بترنيمة تتهادي من علياء السماء، قيثارة الوجود التي تهز أوتار الافئدة وتلون الآماد بنغم بين الحقيقة والخيال، شيء لا يتحمله القلب مرة أخري، الشيخ محمد رفعت تصاعد »كهيعص« ذكر رحمة ربك عبده زكريا« من أعماقه الي عنان الافق فتحدث فيضاناً من الابتهال وجيشاناً من الورع لا تخطئه السرائر المغمورة في الحبور، هكذا تسكن الأيام المعدودات في خاطري ووجداني منذ اليوم الأول للإدراك، فصارت بقوة الحب وسلطان العشق غماراً من الأزمنة تراكمت في اليقين لنعرف تجليات الزمن وبهر المسكونين به إذا عاودهم حتي ولو بعد سنين طوال، لذا استشعر جل السرور والغبطة المخبأة في سحارة جدتي المثيرة للخيال، هذه اللحظة التي تفوق أي زمان، واستمع للشيخ شلتوت وهو يذكر بأن للصائم فرحتين، وهذه واحدة منهما الآن، حين تنير مصابيح المئذنة العالية، ويصعد المؤذن ونحن نصيح.. طلع.. أهه« وينبعث صوته بين السكون المحلق العجيب، الله اكبر.. الله أكبر، ثم ننساب إلي بيوتنا تدفعنا دقات طبول تقدم ابتهالات النقشبندي، كأني أعيد قراءة الزمن الحلو من صوته المتدفق الجهير، وأجهر معه بأنفاسي اللاهثة، يا تري كم رمضان بقي لنا علي ظهر الأرض، أم أن شيئاً رائعاً ينتظرنا في نهاية الطريق، أروع من هذا الزمان.