موعد امتحان 964 متقدمًا لشغل معلم حاسب آلي بالأزهر (رابط للاستعلام)    رئيس جامعة قناة السويس يُكرم الفائزين بجائزة الأداء المتميز لشهر نوفمبر 2025    محافظ الغربية توفير 32 فرصة تمكين جديدة لدعم ذوي الهمم    ما فوائد تأجيل صندوق النقد الدولي المراجعتين الخامسة والسادسة لمصر؟    رئيس البورصة يوقّع بروتوكول تعاون مع جمعية مستثمري السادس من أكتوبر    ڤاليو تعتمد الذكاء الاصطناعي لتعزيز تجربة العملاء    وزير البترول والثروة المعدنية يشهد توقيع اتفاق مع آتون مايننج الكندية    مراوغات نتنياهو في أعياد الميلاد    زيلينسكي: مسودة اتفاقية إنهاء الحرب توفر لأوكرانيا ضمانات أمنية مماثلة للمادة الخامسة من اتفاقية "الناتو"    أمم أفريقيا 2025| شوط أول سلبي بين بوركينا فاسو وغينيا الاستوائية    مفاجآت في قضية الخانكة.. تأجيل محاكمة المتهم بقتل والده وإشعال النيران في جثته    غدا.. استكمال محاكمة والد المتهم بقتل زميله وتقطيع جثته فى الإسماعيلية    الزراعة تحذر المواطنين من شراء اللحوم مجهولة المصدر والأسعار غير المنطقية    وزيرا الثقافة والخارجية يبحثان تعزيز الحضور الثقافي في معرض القاهرة للكتاب    محافظ البحيرة تتفقد القافلة الطبية المجانية بقرية الجنبيهي بحوش عيسى    تشكيل أمم إفريقيا - بلاتي توري يقود وسط بوركينا.. ومهاجم ريال مدريد أساسي مع غينيا الاستوائية    إنفوجراف| العلاقات المصرية السودانية عقود من الشراكة في وجه الأزمات    خالد عبدالعزيز يترأس الاجتماع الختامي للجنة الرئيسية لتطوير الإعلام الإثنين المقبل    هيثم عثمان حكمًا لمباراة الزمالك وسموحة بكأس عاصمة مصر    كوت ديفوار تواجه موزمبيق في الجولة الأولى من كأس أمم إفريقيا 2025.. التوقيت والتشكيل والقنوات الناقلة    تليجراف: عمر مرموش يقترب من مغادرة مانشستر سيتي في يناير    فوز 3 طلاب بجامعة أسيوط بمنحة للدراسة بجامعة كاستامونو بتركيا    بث مباشر.. الجزائر تبدأ مشوارها في كأس أمم إفريقيا 2025 بمواجهة نارية أمام السودان في افتتاح المجموعة الخامسة    وزير التعليم العالي يعلن أسماء (50) فائزًا بقرعة الحج    ميناء دمياط يستقبل 76 ألف طن واردات متنوعة    جامعة أسوان تشارك في احتفالية عالمية لعرض أكبر لوحة أطفال مرسومة في العالم    انفجار عبوة ناسفة بناقلة جند إسرائيلية في رفح الفلسطينية    تشييع جثمان طارق الأمير من مسجد الرحمن الرحيم بحضور أحمد سعيد عبد الغنى    أصداء أبرز الأحداث العالمية 2025: افتتاح مهيب للمتحف الكبير يتصدر المشهد    هل يجوز استخدام شبكات الواى فاى بدون إذن أصحابها؟.. الإفتاء تجيب    تواصل الاشتباكات الحدودية بين تايلاند وكمبوديا    «أبناؤنا في أمان».. كيف نبني جسور التواصل بين المدرسة والأهل؟    الدكتور/ عمرو طلعت: تم إضافة 1000 منفذ بريد جديد ونشر أكثر من 3000 ماكينة صراف آلى فى مكاتب البريد منذ عام 2018    تأجيل محاكمة عامل بتهمة قتل صديقه طعنًا في شبرا الخيمة للفحص النفسي    وفاة أصغر أبناء موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب    السكة الحديد: تطبيق التمييز السعري على تذاكر الطوارئ لقطارات الدرجة الثالثة المكيفة.. ومصدر: زيادة 25%    حسام بدراوي يهاجم إماما في المسجد بسبب معلومات مغلوطة عن الحمل    سبق تداوله عام 2023.. كشفت ملابسات تداول فيديو تضمن ارتكاب شخص فعل فاضح أمام مدرسة ببولاق أبو العلا    بالأعشاب والزيوت الطبيعية، علاج التهاب الحلق وتقوية مناعتك    رفع 46 سيارة ودراجة نارية متهالكة خلال حملات مكثفة بالمحافظات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 24-12-2025 في محافظة الأقصر    إيمان العاصي تجمع بين الدراما الاجتماعية والأزمات القانونية في «قسمة العدل»    وزيرا التعليم العالي والرياضة يكرمان طلاب الجامعات الفائزين في البطولة العالمية ببرشلونة    محمد بن راشد يعلن فوز الطبيب المصري نبيل صيدح بجائزة نوابغ العرب    هاني رمزي: أتمنى أن يبقى صلاح في ليفربول.. ويرحل من الباب الكبير    بولندا: تفكيك شبكة إجرامية أصدرت تأشيرات دخول غير قانونية لأكثر من 7 آلاف مهاجر    الصغرى بالقاهرة 11 درجة.. الأرصاد تكشف درجات الحرارة المتوقعة لمدة أسبوع    الأوقاف: عناية الإسلام بالطفولة موضوع خطبة الجمعة    فاضل 56 يومًا.. أول أيام شهر رمضان 1447 هجريًا يوافق 19 فبراير 2026 ميلاديًا    كيف واجهت المدارس تحديات كثافات الفصول؟.. وزير التعليم يجيب    بعد تعرضه لموقف خطر أثناء تصوير مسلسل الكينج.. محمد إمام: ربنا ستر    ميدو عادل يعود ب«نور في عالم البحور» على خشبة المسرح القومي للأطفال.. الخميس    وزير الصحة: قوة الأمم تقاس اليوم بعقولها المبدعة وقدراتها العلمية    وكيل صحة بني سويف يفاجئ وحدة بياض العرب الصحية ويشدد على معايير الجودة    القومي للطفولة والأمومة يناقش تعزيز حماية الأطفال من العنف والتحرش    وزير الخارجية يتسلم وثائق ومستندات وخرائط تاريخية بعد ترميمها بالهيئة العامة لدار الكتب    بوتين يرفض أى خطط لتقسيم سوريا والانتهاكات الإسرائيلية    فنزويلا: مشروع قانون يجرم مصادرة ناقلات النفط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
الأماكن الحميمة
نشر في الأخبار يوم 10 - 08 - 2010


قبل سفري سعيت إلي أماكن حميمة عندي، زرت ما سمح به
وقتي، ولم استطع بالنسبة لأخري فرحت أحاول استرجاعها بالذكري..
هل نعبر الأماكن ام انها تعبرنا؟
سؤال يحيرني منذ ان بدأ وعيي يطرح الاسئلة التي كانت تبدو بسيطة بل وساذجة إلا انني عبر المسار اكتشفت انها اسئلة الوجود الكبري، لا يتعلق الامر اذن بخاصية تميزني، ولا بقدرات فائقة، انما هي رغبة في المعرفة، وعبر اكثر من ستين عاما لم اتوقف عن طرح الاسئلة، نفس الاسئلة غير ان الطرح يصبح اكثر تعقيدا، اعقد الاسئلة يطرحها الاطفال، نحن ننسي هذا السؤال »انا جيت منين؟« يطرحه الطفل في براءة، ويراوغ الاب والام ليس عن قصد انما عن جهل، اقرأ في هذه الايام ترجمة جديدة لكتاب سارتر الشهير »الوجود والعدم« قام بها الدكتور نقولا متيني، صدرت عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت، وكان الدكتور عبدالرحمن بدوي قد ترجمه في الخمسينيات، الكتاب في جوهره محاولة للاجابة علي نفس السؤال، سؤال الوجود، في اللحظات الفارقة التي تمر بنا تظهر الاسئلة الكبري مرة اخري، ومما عاودني قبل سفري أو بعد حلولي في الولايات المتحدة ذلك المتعلق بالمكان، يسافر الانسان كثيرا، ويعود إلي منطلقه، لابد من منطلق من موضع معين يمثل مركز الثقل بالنسبة له وجوهر حياته ورحلته، ثمة اماكن في التناول واماكن بعيدة، قصيرة، لا نبلغها إلا عبر الذكري، وليس مثل الاماكن شيء يتعلق به الانسان عند الاقتراب من لحظات الخطر، لا أعني المكان لذاته، انما للزمن الذي انقضي فيه، والبشر الذين عرفهم، ولحظات المسرة، قبل سفري سعيت إلي الاماكن الحميمة التي في المتناول واثناء سفري أحل بالاماكن الاثيرة عبر التمني وبعد وصولي وعبر ايامي هنا ابلغ بعضها وأتوه عن اخري!
الثلاثاء صباحا
تماما كما جري عام ستة وتسعين بدأت بزيارة ضريح سيدنا ومولانا الامام الحسين عليه السلام، رغم انني التقيت اخي اسماعيل الذي قرر ان يمضي اليوم بصحبتي اذ اشفقت عليه وعلي شقيقتي من القدوم مبكرا إلي المطار كذلك الصحب المقربون جاء اسماعيل وانتظرني علي مقهي الفيشاوي الذي كان يصحبنا اليه أبونا في طفولتنا خاصة بعد صلاة الجمعة، ثمة رائحة خاصة لم اعرفها في اي مكان اخر بالعالم، عبق خان الخليلي مزيج من نعناع وبخار شاي اخضر وعطور غامضة وألففة قماش مطوية وانفاس عابرين بعضهم مقيم وكثيرون غرباء، اثق ان كل انسان مرّ ترك اثرا ما حتي لو مضي علي عبوره عدة قرون، وهذا بعض من سر الاماكن العتيقة ومما يفرقها عن الاماكن الحديثة التي لم يطرقها احد بعد.
قصدت مولانا وحيدا، بمفردي، رجوت شقيقي ان ينتظرني أو يمضي إلي بيت حسن بكر اقدم اصدقائي في حارة سيدي معاذ، تفهم رغبتي في الانفراد، دخلت المسجد وتمهلت عند الاقتراب من الضريح الجميل، الرقيق، المُهاب، المشع بكافة المعاني، جلست قليلا، وتبادلت التحية مع من لا اعرف شخصيا، لكن كل شخص هنا يعرف للآخر بدون تعرف، فالكل من احباب الحسين،، وكل قاصد هنا قريب الاخر، للمصريين علاقة خاصة جدا بالامام الحسين، لا علاقة لها بمذهب ولا طريقة انما لها صلة وثيقة بمضمون مصر القديم، وهذا ما سأفصل فيه الكلام يوما في بداية سعينا كنا نسأل الوالد رحمه الله، لماذا لا نسكن في الدقي قرب وزارة الزراعة التي يعمل بها، هناك المنطقة هادئة ومليئة بالاشجار والبيوت قليلة »كان ذلك في بداية الخمسينيات« غير انه كان يرد بحسم، »لا يمكن افارق الحسين« كان لابد ان تمر سنوات عديدة حتي افهم وحتي استوعب المعني والمبني!
سيدنا الحسين لا تعني عند المصريين شخصا مقدسا فقط، انما مكان له خصوصيته الشديدة، كان القادمون من الريف ينزلون محطة مصر ليس لهم مأوي، يقصدون الحسين، هنا لابد ان يلتقي بمن يعرفه أو من يعطف عليه، اتحدث عن حال كان سائدا حتي الستينيات، بالتأكيد وقعت متغيرات لكنني اتصور الجوهر الدفين مازال.
ساحتفظ بمناجاتي الخاصة في انفرادي داخل الضريح، وعند طوافي به وسلامي عليه متراجعا بظهري إلي الخارج فللزيارة اداب ومراسم، خرجت إلي شارع المشهد الحسيني، إلي حارة الوطاويط، مضيق يعبر إلي شارع الجمالية حده الايسر مدرسة الحسين الاعدادية وكان اسمها من قبل مدرسة محمد علي وتم تغيير الاسم بعد ثورة يوليو في اطار الخاصية المصرية المعتادة، المحو المنظم للذاكرة، عندما زرت برلين الشرقية بعد تمام الوحدة الالمانية لم يتغير اسم شارع واحد، ماتزال الشوارع تحمل اسم كارل ماركس، وأنجلز وكروسكايا »زوجة لينين«، في مصر يتم التعامل مع الاسماء بالذكر والمحو فالذكر يتم خلال حياة الحاكم، حيث يطلق اسمه علي كل شيء وبعد رحيله يبدأ المحو إلي درجة تطال المنشآت الكبري، وبحيرة ناصر خير مثال، لقد تغير اسمها إلي بحيرة السد، تتوالي العصور ولا تتغير الطقوس السلطوية، في المقابل يحتفظ الناس بذاكرة خاصة تقاوم المحو، وفي الجمالية استمعت إلي قصص شتي يمتد بعض جذورها إلي العصور القديمة، مدرسة الحسين درست بها المرحلة الاعدادية، إلي اليمين دكان الحاج دياب، صعيدي من الجنوب تخصص في بيع الورق القديم، ومرتجع الصحف اقتنيت منه نفائس نادرة وكان احد مصادر تحصيل ثقافتي في بحثي عن الروايات والمصادر النادرة. إلي جواره بائع للسمك علي ناصية حارة المرلي »اسم غريب لم اعرف اصله«، كانت رائحة السمك تعبق المكان، وإلي جواره تقعد سيدة عجوز امامها مشنة الليمون، واخري امامها الفجل والكرات. اما الخبز فعند السني الذي كانت له لحية كثة ويلي السماك ويسبق مقهي البنان الشهير، كان الوالد يرسلني إلي السماك ومعي خمسة قروش لاعداد وجبة مخصوص. وكلمة مخصوص يعني اعداد السمك امام الزبون وقليه. كان ذلك يستغرق وقتا لكنني كنت أصبر بينما الشهية تنمو والبصر يتبع ايدي السماك الماهرة سواء في الاعداد أو اللف في الورق الابيض النظيف، لكن قبل ان يحكم اللفافة يمد يده إلي كومة من الجمبري المقلي متوسط الحجم بمقاييس ايامنا الان، ملء قبضة اليد فوق البيعة، في الخمسينيات كان الجمبري من الاسماك ذات القيمة المتدنية. لا يقبل الناس عليه، وكان غير ان وضع الجمبري تبدل بدءا من السبعينيات فاصبح مع الانفتاح احد الانواع مرتفعة السعر، وتجاوز سعر الكيلو منه الثلاثمائة جنيه، واصبح وجوده فوق الموائد من علامات الثراء، كان السماك علي ناصية حارة المرلي هو الوحيد في الجمالية حتي فتح في نهاية السبعينيات سماك اخر في شارع المعز، في مواجهة الدرب الاصفر.
كتخدا، الساعة الثانية إلا ربعا
تجاوزت مقهي البنان، لا وقت لشرب الشاي به، علي الجانب الاخر بناء قبيح لا يتناسب مع المكان، شيد في الستينيات كامتداد لمصلحة الدمغة والموازين، جزء منها في مبني قديم تقع بداية بيت القاضي تحته، وهذا مكان يثير عندي فيضا من الذكريات والصور، البوابة تؤدي إلي ميدان بيت القاضي، في مواجهتها قبة قلاوون، وآمل ان تتاح لي الفرصة لكي اقدم مكنون القبة ورموزها إلي الناس عبر التليفزيون كان بيت القاضي اول منطلق لسفرنا إلي الصعيد، أوتوبيس رقم عشرين شركة الطرابلسي وكان يمر بميدان باب الحديد، أو محطة مصر. مررت بهذه الاماكن مرتين الاسبوع.
اليوم امر بسرعة بما لم اعبره الاسبوع الماضي، يلي مقهي البنان دكان خردوات العسال، كان يزينه صباح الاعياد، كان مصدرا من مصادر البهجة في الطفولة، هنا اصل إلي اول مفترق طرق عرفته.
هذا مدخل درب الطبلاوي ورغم انه درب اي انه يصل بين شارعين، إلا ان تلك الوظيفة كانت في الزمن القديم، اذ يبدو ان احدهم بني بيتا سد الدرب، فيه فتحت عيني علي الدنيا، البيت الذي اقمنا في الطابق الاخير منه ازيل وقامت مكانه بناية حديثة في الحارة كان يوجد قصر المسافر خانة الذي احترق عام سبعة وتسعين. وحتي الان مقر المشيخة الاحمدية المرزوقية مجاور لضريحه، بيت فسيح، تسكنه اسرة الشيخ شمس الدين وفيه رأيت عام اربعة وخمسين البكباشي حسين الشافعي وعددا من قادة مجلس قيادة الثورة كل شبر هنا يحوي قدرا من عمري، انما المرور اليوم اطلالة سريعة في جوهرها تحية وسلام، والسلام لا يطول، كذلك التحية مجرد اشارة لإبداء الود ولاستعادة قبس من الصفا.
مدخل درب الطبلاوي كان حدود عالمي قبل ان التحق بالمدرسة الابتدائية القريبة. كان الخروج منها بمفردي يعني امكانية مواجهة الضياع. اللعب في الداخل كأنه في فناء الدار، اما ان ابلغ شارع قصر الشوق المفتوح علي الشوارع الاخري.
اتوقف متطلعا إلي اللافتة الزرقاء البديلة، للاسف اللوحة الاصلية سرقت، هذه ظاهرة تجتاح القاهرة القديمة منذ سنوات، لافتة »زقاق المدق« اختفت وبعض هذه اللافتات يباع علنا في منطقة وسط المدينة، في عام ثمانية وثمانين جئنا في السادسة صباحا مع نجيب محفوظ، كان التليفزيون البريطاني يعد فيلما عن علاقته بالجمالية، ويعتبر الوثيقة الوحيدة الموجودة الان وتصور كاتبنا العظيم في الجمالية يشير ويعرف بأماكنه الحميمة، وتقريبا هي عين اماكني توقف تحت لافتة قصر الشوق التي كانت معلقة قرب مدخل سيدي مرزوق دخلت الدرب حتي عطفة باجنيد، الفرن يتوسطه والمكان الذي ولد فيه الممثل الكبير عبدالوارث عسر، كل شبر هنا مثقل بالتاريخ، وانفاس العابرين، شارع حبس الرحبة الذي عبرته بسرعة منذ دقائق، كان ممرا للعلماء والعالمين، مشي فيه طابور طويل بدءا من ابن خلدون الذي تولي مشيخة الخانقاه البيبرسية والشيخ الاكبر ابن عربي، وحتي طه حسين والحكيم ويحيي حقي كان المركز هو الازهر، وما يحيطه ملحق به، سواء كان سوقا أو خانقاه، أو قيسيرية أو وكالة، لو ان مشروع القاهرة الفاطمية وضع لافتات توضح الاسماء التي اقام اصحابها أو مروا ستجد ان الجمالية والدرب الاحمر من اغني مراكز العالم ثقافة وثراء، فهما حرص عليه باستمرار مطابقة المكان علي المكان، قصر الشوق مثلا، ماذا كان في العصر الفاطمي؟ ثم المملوكي والعثماني وصولا إلي ما نحن عليه الان، ومن المصادر الكبري التي ساعدتني في هذا الاتجاه تعليقات محمد بك رمزي علي كتاب النجوم الزاهرة، لابن تغري بردي، وقد قمت بتفريغها وفهرستها بخط يدي، وانوي نشرها مفردة مع ما توصلت اليه من اضافات، هذا عمل لم اعرف مثيلا له، بحيث يمكنني القول ان هوامش الكتاب توازي المتن في الاهمية.
اصل إلي واجهة مدرسة عبدالرحمن كتخدا، اول مكان تلقيت فيه العلم، المبني مغلق منذ حوالي اربعين عاما اصبح جزءا مما اسميه عمارة الصمت، في القاهرة القديمة مبان مغلقة غامضة، لا يعرف احد تاريخها علي وجه الدقة أو ورثتها. وفيها ايضا الخرابات، وتلك بقايا اماكن خربة لم يعمرها احد، وفي الغالب تتحول إلي مقالب زبالة أو اماكن للانشطة السرية، مثل تناول المخدرات أو الدعارة.
اتوقف هنا الواجهة تنتمي إلي بنايات اخر القرن التاسع عشر، عثمانية الطراز الشبابيك المستطيلة، خضراء اللون غالبا مصاريع خارجية من خشب، وداخلية من زجاج، ارتفاع الطابق الواحد يوازي ارتفاع طابقين علي الاقل من المباني الحديثة، الباب الضخم مغلق بقفل وجنزير، لا ادري هل يتبع المبني وزارة التعليم ام جهة اخري، ما تبقي في ذاكرتي منه كثير لكنه غير مترابط، نثار، يوم ان صحبني الوالد رحمه الله ليسلمني إلي ابراهيم افندي، سكرتير المدرسة اذكر ملامحه جيدا خاصة الوشم علي جانبي جمجمته طائران لونهما اخضر، من العبارات المتداولة والتي كنت اسمعها كثيرا في طفولتي من باب الذم وتقليل القيمة »دا داقق عصافير« ويبدو ان العصافير كانت علامة وشم تدل علي فئة وضيعة من الناس، خاصة القوادين لماذا تمسك البعض بهذا الوشم؟ لا ادري، لكن ربما كان الامر متصلا بالسحر، مما اذكره رائحة الطبيخ، عندما تولي طه حسين وزارة المعارف العمومية بعد ان قبل مصطفي النحاس باشا كافة شروطه، عمل بهمة علي تنفيذ برنامجه الذي وضعه في كتابه العظيم »مستقبل الثقافة في مصر« الصادر عام 8391. وأري انه مازال صالحا حتي الان، واذا لم يقرأه اي وزير يتولي شئون التعليم في مصر فانه لن يلم بمشكلة التعليم، مازال كتاب طه حسين صالحا حتي الان، مما كتبه العميد مجانية التعليم وهذا ما جنينا نحن ابناء الاسر الفقيرة ثماره، نحن ابناء شرعيون لسياسة طه حسين التي تقررت في وزارة الوفد الاخيرة قبل الثورة وكان من ارائه ايضا ضرورة بناء صحة الطلبة والاهتمام بها، فقرر لهم العلاج مجانا اضافة إلي وجبة كاملة تحتوي علي الخضار واللحم، كان بلوغ الظهيرة يعني فوح رائحة الطبيخ، ثم انتظامنا طابورا، الاواني نظيفة والنظام عنصر سائد. فيما بعد، اصبحت الوجبات جافة جبن وبيض ثم توقفت في بداية الستينيات، لا اعرف شخصية ثقافية كان لها تأثير طه حسين، اذكر مثالا علي بعد نظره وثاقب رؤيته، اثناء توليه الوزارة قرر انشاء المعهد المصري الاسلامي »لنلاحظ الاسم« في مدريد اي في البلد الذي لم يكن يعترف بالمرحلة العربية في تاريخه والتي امتدت ثمانية قرون، اعني الاندلس الان جري تحول اذ يعتبرون الاندلس ،جزءا من خصوصية اسبانيا وحيويتها، هذا المركز لعب دورا مهما في نشر الثقافة العربية والتعريف بمضمون مصر، وقد تولاه عدد من كبار المثقفين ولكن آلت احواله في العقود الاخيرة إلي من لم يكونوا في المستوي غير انه مازال قائما، في السنوات الاخيرة اصبح مفهوم العمل الثقافي مختلفا بعد ان تبع وزارة التعليم العالي، وتدخلت فيه الوساطة واعتبارات لا صلة لها بالثقافة باستثناءات محدودة جدا، وهذا يحتاج إلي تفصيل اكثر، غير انني اضرب مثالا بنيويورك التي تعد عاصمة عالمية للثقافة لا حضور عربيا بارزا فيها، لا وجود لمركز ثقافي مصري، مركز يدار بعقلية ثقافية وليست ادارية طه حسين انشأ المركز الثقافي الاسلامي في مدريد نهاية الاربعينيات، وحتي الان لم يقدم احد علي انشاء مركز في نيويورك أو بكين، أو طوكيو، وهذا ايضا من الموضوعات التي سأعود اليها مفصلا اهميتها.
فلأكف عن التداعيات، الوقت ضيق، عبدالرحمن كتخدا ذلك الامير البناء الذي لا تخلو القاهرة من احد اثاره المعمارية، اولي المدرسة ظهري متجها إلي شارع ام الغلام، منه ادخل إلي الكفر، منذ سنوات لم اسلك حواري تلك المنطقة، انما اردت اختبار ذاكرتي، كان ذلك طريقي اليوم بعد الظهر من بيتنا في درب الطبلاوي إلي حارة سيدي معاذ قرب الدراسة لم تخنِ ذاكرتي اتصلت بشقيقي اسماعيل، طلبت منه ان يقابلني عند بيت حسن بكر اقدم اصدقائي ومعه الدكتور اسماعيل يوسف، زملائي من المدرسة الابتدائية، مازال حسن يحتفظ بالبيت الذي امضينا فيه سنوات نستذكر دروسنا عندما ظهر البيت اخيرا، كان حسن يقف امامه مرحبا بشقيقي الذي جاء من الجهة الاخري.
كان البيت هو اخر مكان اقصده في القاهرة القديمة خلال جولتي السريعة التي تسبق سفري بيوم تلك الاماكن التي استطعت زيارتها، اما الاماكن الحميمة التي لم اتمكن من الوقوف بها فتمتد بعرض مصر وطولها، انني احتاج حياة كاملة متصلة للمرور بها، ولزيارتها واستعادة ما جري فيها، وما اودعته من اثر، لا اقدر علي زيارتها فأستعيدها عبر الذاكرة هكذا الحياة كلها تتحول إلي ذكري إلي ذكريات متباعدة نقدر علي استدعاء بعضها، ولا نقدر في احيان اخري.
من ديوان الشعر العربي
قال الشاعر صردر »توفي عام 564ه«
هذه الارض أمنا وأبونا
حملتنا بالكره ظهرا وبطنا
انما المرءُ فوقها هو لفظُ
فاذا صار تحتها فهو معني
انما العيش منزلُ فيه بابان
دخلنا من ذا ومن ذا خرجنا
والليالي لنا مطايا اذا خبت
بنا نحو غاية بلغتنا
مبتدانا ومنتهانا سواءُ
فلماذا من الاخير عجبنا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.