في مثل هذه الأيام من شهر يوليو 2591، ومنذ ما يزيد علي نصف قرن من الزمان، تفجرت في مصر أحداث جسام هزت البلاد من مشرقها إلي مغربها، وامتدت آثارها إلي كل ما حولها بطول الأرض العربية من المحيط الأطلسي، وحتي الخليج العربي، إيذانا بنهاية حقبة من الزمان حان أوان رحيلها، بكل ما تحتويه من أوضاع ضاع استقرارها، ونظم فقدت شرعيتها، وسياسات ثبت فشلها، وأفكار تأكد إفلاسها وعدم مصداقيتها.. ومنذ لحظة الميلاد الأولي لثورة الثالث والعشرين من يوليو، تدافع التأثير، وامتد الأثر ليتخطي حدود الزمان والمكان، ويتردد صداها بقوة علي الساحتين الإقليمية والدولية، حيث الشرق الأوسط بما يحتويه من براكين فوارة، وصراعات ملتهبة، وعلاقات قوي تبحث عن توازنات بين أطرافها تضبط حركتها، وتحمي مصالحها،....، ووسط عالم كان قد تغير بالفعل، وبدأت ملامحه الجديدة في التشكل والاستقرار، في أعقاب صدام النيران وملاحم القتل التي غمرت الأرض في الحرب العالمية الثانية، وأطاحت بمسلمات كثيرة، وخلقت واقعا جديدا، وقسمت العالم الي كتلتين متعارضتين. وبقياس التأثير في ذلك الوقت من الزمان، وبحساب الاثر فيما تلاه من سنوات، كانت ثورة مصر ولا تزال حدثا لا ينسي محليا واقليميا ودوليا، حيث كانت بالفعل علامة فارقة في تاريخ الشعب المصري، وشعوب المنطقة ودولها، امتدت آثارها وتعمقت في وجدان الجميع لتغير وجه التاريخ، وتبدل شكل الحياة، وطبيعة الأشياء، ليس في مصر فقط بل في كل ما حولها، وما جاورها بامتداد القارة الإفريقية، وعلي اتساع القارة الآسيوية،...، ومناطق أخري كثيرة في العالم تفصلها عن مصر بحار ومحيطات ومسافات. وفي هذا لا نبالغ إذا ما قلنا، إن ثورة مصر قد تحولت بعد تفجرها علي أرض النيل بسنوات قليلة، إلي مصدر إلهام لشعوب كثيرة في بلاد بعيدة، استمدت منها القدرة علي التمرد علي الواقع، والأمل في تغييره، بل والثورة عليه أيضا..
وإذا ما ألقينا نظرة متفحصة علي واقع الحال في مصر قبل الثالث والعشرين من يوليو 2591، نجد أن جميع الظروف والملابسات تشير بما لا يقبل مجالا للشك، بأن التغيير أصبح ضرورة لا مفر منها، ولا مهرب إلا إليها.. حيث كانت مصر كلها تغلي غضبا في ظل الاحتلال البغيض، الذي ألقي بظلاله القاتمة علي كل مناحي الحياة، وأشاع إحساسا كئيبا بالمهانة والقهر، وولد رغبة طاغية في التحرر.. وكانت مصر كلها تتابع وتشارك في مقاومة قوات الاحتلال في مدن القناة، وتستشعر أنها تقف علي أعتاب حدث جلل يخلصها من هذا الواقع المر، وينهي الاحتلال الذي استمر عشرات السنين دون أمل في الاستقلال، ويضع حدا لصراع الأحزاب الذي تعمق وتصاعد بلا طائل وبلا هدف سوي المصالح الذاتية قصيرة النظر، ويقضي علي فساد السلطة الذي استشري في كل مكان، ووصل إلي حد لا يمكن السكوت عليه، أو القبول به، في ظل نظام ملكي فقد كل أسباب استمراره، وشرعية وجوده، لحظة افتقاده لثقة الشعب به، واحترامه له، بعد أن ذاعت مفاسده، وشاعت مثالبه.. وفي ظل ذلك كله، كان من الطبيعي أن يحلم شعب مصر بالتغيير، وينتظر الخلاص، وأن يعمل من أجله، ويسعي إليه، بكل ما يملك من أمل في المستقبل الأفضل،..، ومن هنا كانت الثورة تعبيرا عن آمال الشعب، وترجمة لأحلام الأمة.
ومن هنا لم تكن ثورة يوليو حدثا منقطعا في ذاته، منفردا عما حوله، مقصورا علي كونه مجرد حركة عسكرية لرجال الجيش المتحمسين، بل تحولت بعد احتواء الشعب لها، ومنذ لحظة ميلادها الأولي إلي تيار جارف يتحرك باسم الجماهير ويتفاعل معها، ويتحدث بإسمها، ويكتب تاريخا جديدا لمصر والمنطقة.. لذلك تحولت حركة الضباط الأحرار التي قامت ليلة الثالث والعشرين من يوليو إلي ثورة للشعب كله، ثورة علي الماضي، وواقع الحال، ثورة من أجل المستقبل، وأصبحت هذه الثورة حدثا تاريخيا فريدا، بدأت خطواته الأولي في عام 2591، ولكن آثاره لم تنته حتي الآن، بل استمرت بطول نصف القرن الماضي لتشهد اياما مجيدة، وأخري عصيبة، ولتخوض معارك كبيرة، بعضها فرض عليها فرضا، وبعضها سعت إليه سعيا،..، وكانت النتيجة تاريخا حافلا بالانتصارات في قدر كبير منه، والانكسارات في قدر ليس بالقليل ايضا..
وقد يكون من المهم الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات علي قيام الثورة أن نقول بوضوح إن من حق الأجيال المعاصرة من أبناء الشعب والشباب علي وجه الخصوص، بوصفهم لم يشاهدوا الثورة لحظة ميلادها، ولم يعايشوا أحداثها، ولم يعاصروا مجرياتها علي أرض الواقع، أن يعرفوا الحقائق في سياقها الصحيح، وأن يطلعوا عليها في إطارها السليم، دون تحريف أو تبديل، ودون التهوين من أدوار البعض، أو التهويل في أدوار البعض الآخر، ودونما انتقاص مقصود من قيمة أحد، أو تعظيم مستهدف لقيمة الآخر.. ولعلنا لا نبالغ إذا أكدنا أن أول الواجبات الملقاة علي عاتق من يعلمون تجاه من لا يعلمون، هو تقديم معرفتهم، وتسجيل علمهم بأكبر قدر من الدقة الممكنة، ورصد جميع الأحداث والتطورات والوقائع بأعظم قدر من الأمانة والمسئولية، حفاظا علي صحة وسلامة ما يحفظ في ذاكرة الأمة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بحدث علي قدر كبير من الأهمية والخطورة، مثل ثورة الثالث والعشرين من يوليو التي كانت حدثا جللا غيرّ مسيرة الشعب وأثر في تاريخ الأمة بأكملها.
ولو نظرنا بحساب الزمن فسنجد أن كل الشباب في مصر الآن، وأغلب الرجال والنساء، هم من غير المعاصرين للثورة، وممن لم يعرفوها بالمشاهدة، أو المعايشة، ولكنهم بالقطع وقعوا فريسة ما يقرأونه عنها، وما يسمعونه من الرواة،..، وللأسف كان بعض ما يكتب عن وقائع الثورة، ومواقف رجالها وقادتها يتضارب مع الآخر،..، وللأسف ايضا كان بعض ما يقال أو يسمع يتصادم مع بعضه الآخر.. وبين هذا التضارب، وذلك التصادم، أصبح الشباب ضحية ما يكتبه هؤلاء، وما يرويه أولئك،...، وبعضهم لم يراع الله، ولا الضمير، ولا أمانة الكلمة، ولا المسئولية التاريخية فيما يقول أو يكتب عن الثورة ورجالها،...، بل راح البعض منهم يقص علينا قصة تختلف عما يقصه الآخر، وراح البعض منهم يرفع واحدا من قادة الثورة ورجالها علي حساب الآخر، أو يهبط بواحد منهم لشيء في نفس يعقوب.. ومن هنا كانت المأساة،...، وتاهت الحقيقة واختلطت الوقائع والأحداث، بل وتلونت هذه الوقائع بلون من يكتبها، وتلونت تلك الأحداث بلون من يرويها، وخضع الأمر عند البعض للأهواء والمصالح والخصومات،...، وذلك يتعدي مرحلة الخطأ الي مرحلة الخطيئة..
ونحن لا نطلب المستحيل، ولكننا نريد الحقيقة مجردة بلا رتوش أو تحويرات، أو ظلال،..، لا نريد من أحد أن يكذب ولا نسعي لدي أحد كي يتجمل، فقط نريد الحقيقة كما وقعت، وكما كانت، وكما هي فعلا، بلا إضافة أو حذف بلا تمويه أو خداع،...، لأن ذلك هو حق الشعب في المعرفة، وحق الأمة في تاريخها، وحق كل الأجيال في أن تحتفظ بذاكرة صحيحة لأحداثها المصيرية.. ونحن نعرف أننا لسنا ملائكة منزهين عن الخطأ، ولكننا نعرف في نفس الوقت أننا لسنا شياطين غارقين في الخطيئة والخداع،...، ونحن ندرك أننا جميعا بشر، وأن البشر يصيبون ويخطئون، سواء كانوا قادة للثورة أو كتبة للتاريخ أو رواة للوقائع،...، لذلك فإننا لا نطلب من كتبة التاريخ ورواته، سوي توخي الصدق، وتسجيل الحقيقة، وأن يتركوا لنا وللأجيال حرية الفهم والاستيعاب والتقدير.. فهل ذلك صعب عليهم؟! أم أننا نطلب المستحيل؟!