وحدها الرسالات السماوية هي من تملك تصوراً متكاملاً للإصلاح تتنزل به في زمان ومكان محددين، تبتغي الحق والخير والسلام الاجتماعي بين البشر معتمدة في ذلك علي أسس الأخلاق والمبادئ العليا المجردة، أما الثورة ومهما كان نبل محركها وسلامة مقاصدها فإنما تظل عملاً من أعمال البشر تصيب وتخطئ، ومن الطبيعي أن تعاديها قوي النظام القائم دفاعاً عن مصالحها وإمتيازاتها، ومن الطبيعي أيضا أن تساند الثورة طبقات تسعي للحصول علي حقوقها فتلتف حول الثورة وتدافع عن مكتسباتها، و يخطيء من يتصور أن قضية الثورة، في تطورها وتأصيل جذوتها في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم يعتمد علي قوي الداخل وحدها، ربما يصدق ذلك علي ثورات أخري عاشها العالم في التاريخ الحديث والمعاصر، بينما في المسألة المصرية كان الأمر أكبر من ذلك وأكثر تعقيداً، فلقد كانت الإمبراطورية البريطانية طرفاً في أحداث الثورة وصراعها وكانت للولايات المتحدةالأمريكية أطماع في خلافة الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط وكانت لقوي الاستعمار التقليدي وإمبراطورياته الواسعة مصالح مباشرة في تحجيم الثورة والسيطرة علي طموحاتها وتقليم أظافرها. كانت أيضا للحرب الباردة امتداداتها في المنطقة، مثلتها تطلعات الاتحاد السوفيتي وحلفائه في المعسكر الشرقي والقوي الناشئة في الهند ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، الأمر الذي أعطي للثورة ولجمال عبد الناصر بعداً دولياً وإقليمياً يصعب للعالم تجاوز حساباته وإمكانات تحركاته التي كانت واحدة من تجلياتها تصدير الثورة ومساعدة قوي التحرر الوطني في العالم العربي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وسواء كان من حسن الطالع أو سوء حظ الثورة أنها اشتبكت ومنذ قيامها مع كل القوي داخلياً وخارجياً، وامتدت نظرتها لتعبر حدود الإقليم وتؤثر في حركة العالم وتشتبك مع قواه العظمي في معارك العدوان الثلاثي في 1956 الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، الوحدة الأفريقية، منظمة المؤتمر الإسلامي والمؤتمر الأفروآسيوي ومؤتمر باندونج وكسر احتكار السلاح وتمويل السد العالي وتأميم قناة السويس وجلاء الاحتلال البريطاني وتأسيس الجمهورية وأزمة مارس "أزمة الديمقراطية". باختصار كانت الثورة المصرية استثناء يصعب القياس عليه ويصعب أيضا مقارنته بثورات أخري شهدها العالم الحديث وتأثر بها وامتدت أحداثها لأحداثه، مثل الثورة الفرنسية أو الثورة البلشفية. فارق كبير بين أن يجلس جنرالات الثارات القديمة ووجهاء عصر الانفتاح والسماسرة لينتقدوا الثورة في أهم منجزاتها لمجرد أنها هددت مصالحهم أو هكذا يدعون، من خلال منظور ضيق لا يحكمه قواعد النقد ولا مدارك العقل ولا منهج العلم فيما يتقولون أو يدعون، وفي يونيو ويوليو من كل عام يخرج علينا القاصي والداني في كرنفال الأفكار المشوشة وأحاديث الإفك والتقول لتصل الأمور بالإدعاء أن مشروع ثورة 23 يوليو في انحيازه للتحول الاشتراكي عمل علي تقزيم الأزهر وتحجيم دوره بحسبان أن الدين أفيون الشعوب. مقولة سقيمة تعبر عن فكر مجتزئ، لم أكن أحب لقائلها وهو عندنا من هو أن ينزلق إليها، فالثابت أن الثورة حاولت عصرنة الأزهر وتمديد روافده من الدراسات الفقهية والقواعد والأصول لتشمل دراساته العلوم التجريبية والمدنية الحديثة، والثابت أيضاً أن الثورة هي التي أسست لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومدينة البعوث الإسلامية لاستقبال أبناء العالم الإسلامي للدراسة في الأزهر وإرسال البعثات الأزهرية للدول الأفريقية ودول العالم الثالث وأنشأت جامعة الأزهر الحديثة بفروعها الكبري بالأقاليم وأسست مئات المعاهد الأزهرية في المحافظات وجعلت شيخ الأزهر مقدماً في البروتوكول علي رئيس الوزراء وبنفس الدرجة الوظيفية وجعلت وزيراً لشئون الأزهر. وفي كتابه "فلسفة الثورة" وضع عبد الناصر الدائرة الإسلامية جنباً إلي جنب مع الدائرتين العربية والأفريقية في محاور حركة الثورة وقلب اهتماماتها. ورغم دخول الثورة في معارك الإسلاميين من الإخوان وغيرهم إلا أنها لم تتخل عن دورها في احتضان واستضافة الثوار والمفكرين و المناضلين والكتاب من العالم العربي وقوي التحرر الوطني الأفريقي وكان منهم المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي. علي العكس مما يقال، كان عبد الناصر واعياً لدور الأزهر باعتباره واحداً من أهم روافد القوة الناعمة في إحياء مشروع النهضة الذي بدأه محمد علي مع رفاعة رافع الطهطاوي، وماتطوير الأزهر إلا استجابة الثورة وجمال عبد الناصر لأفكار وطموحات المجدد الكبير الشيخ محمد عبده، و لقد تخرج في الأزهر وأقام في القاهرة مئات الآلاف من الدول الإسلامية والأفريقية والذين تحولوا إلي قيادات تاريخية في بلدانهم كانوا رصيداً مضافاً لدور مصري فاعل في حركة العالم ومنظماته ومؤسساته الدولية. عبد الناصر هو من طلب من الدكتور عبد القادر حاتم تأسيس إذاعة القرآن الكريم، وهو الذي أشرف بنفسه علي تأسيس وتشييد مسجد صلاح الدين في الروضة إحياءً للعمارة الإسلامية ولدور المسجد في الإشعاع الثقافي والفكري، وهو الذي أعطي زخماً لدور الكنيسة المصرية ووظف مكانة بابا الإسكندرية في دور فاعل ومؤثر لمصر في محيطها الأفروآسيوي ودول البحر المتوسط. هو إذن لم يكن ضد الدين ولانظر إليه باعتباره أفيون الشعوب. إن من يحاكمون الثورة بأثر رجعي طلباً لثارات قديمة أو استهدافاً لأفكار لا تقبل الطفيلية والأنانية ولاتقر بتوحش الرأسمالية، فإنما يبدأون دائما بتجسيد الفكرة ليسهل ضربها والتعامل معها بمنطق الشخصنة والإدانة الشخصية، ذلك لأن الفكرة المجردة يصعب النيل من نبلها وعدالتها، إذ من يجسر أن يعلن أنه ضد العدالة الإجتماعية وضد مكاسب العمال والفلاحين وضد مجانية التعليم وضد استقلال الإرادة السياسية وضد السلام الاجتماعي أوضد حق البسطاء والفقراء في حياة حرة كريمة أو ضد ضمان التأمين الصحي للعاملين، لا أحد. لذلك يعمدون إلي تجسيد الثورة في شخص جمال عبد الناصر، كما يختصر الغرب الإسلام في شخص بن لادن وأبومصعب الزرقاوي، ثم يلصقون كل النواقص بالرجل كأنهم يحاولون اغتياله في ثراه فإذا بالثورة تتجسد في الديكتاتورية، وزوار الفجر والمعتقلات وحرب اليمن والتهور في معاداة الإمبريالية العالمية بتأميم قناة السويس وتمصير البنوك والشركات. وفي الحقيقة هم يتخندقون ضد العدالة الاجتماعية، وينطلقون من أفكار معادية للمساواة وتكافؤ الفرص والحق في حياة كريمة للجميع، وهم يسخرون من القطاع العام والقوي العاملة والحق في العلاج والتشغيل والضمان الاجتماعي ولا يرون الأشياء إلا بعيون السماسرة ويحسبون كل شيء بمنطق المكسب والخسارة وآليات السوق والعرض والطلب وكأنهم يتكلمون عن إدارة شركة وليس وطنا ومستقبل أمة وأجيالا قادمة. وهنا يتوجب الإشارة إلي أنه يصعب إنكار سلبيات الثورة ويصعب أيضا الدفاع عن كثير من أخطائها وتجاوزاتها خصوصا فيما يخص الحريات العامة والديمقراطية ورغم ما يمكن أن يقال، من أن الثورة كانت بيضاء وأن عبدالناصر لم ينصب المشانق والجالوتين كما فعل روبسبير أوسان جوست في الثورة الفرنسية، ويدافع البعض بأن الثورة استعاضت بالعدالة الاجتماعية والكفالة الوطنية و تكافؤ الفرص والمساواة بديلاً للديمقراطية، إذ أن الديمقراطية ليست هدفاً في ذاتها وإنما هي أداة للنهضة والتنمية والشفافية ومكافحة الفساد واحترام القانون، ورغم وجاهة الدفاع إلا أن ممارسات فاضحة ضد حقوق الإنسان وآدميته تمت في المعتقلات والسجون، وليس لاستمرارها مبرراً للتغاضي عنها أو عدم محاسبة الثورة علي اقترافها والتورط فيها. وهنا نشير علي كل منصف أنه لضمان موضوعية النقد والإفادة من إيجابيات وسلبيات تجربة الثورة، يتوجب الفصل بين أدبيات الثورة وأهدافها العادلة وطموحاتها الكبري وحتي هناتها وإنكساراتها وأخطائها وبين جمال عبدالناصر شخصاً وفكراً وأداءً، حتي وإن سلمنا بمسئوليته عن ذلك كله.