إن لم يكن رجل الدين هو الذي يطلق طاقات الروح ويجدد نزعة السمو والنبل, ويوقظ الضمائر, لتشرق عليها أنوار الحب والعطاء والسلام, فمن تراه يقوم بذلك؟ إن لم يكن رجل الدين صوتا لكل ماهو جميل ورائع, وحارسا للقيم السامية, كأنه لحن سماوي يمشي علي الأرض, يبذر الاخوة بين البشر, ويغرس روح التضامن والتسامح ويتقبل التعددية وهي إرادة إلهية, في الأديان والأجناس والطبائع لايدين البشر بقدر ما يقدم لهم القدوة الصالحة, لاينتمي إلي تطرف أو تعصب مقيت أو عنف, أو قسوة, فمن تراه يقوم بذلك؟ إن لم يكن رجل الدين متبحرا في علمه, واثقا من حكمه, متأنيا في آرائه, متفتحا علي كل ثقافة الدنيا, مناصرا للتقدم والحضارة, مؤيدا لحرية الضمير وحرية العقل في التزام بثوابت الايمان, دون اسراف أو غضب, يدرك أن الحقيقة المطلقة الله تبارك وتعالي سبحانه جل جلال لايمتلكه عقل ولا انسان, بل كل انسان مؤمن يصلي: امتلكني يا الله.. كما يدرك أن الفكر الانساني في تطور وتجدد متصل, فالثوابت تبقي وماعداها يساير حاجة الانسان ومتطلبات العصر, فما الأديان إلا رسالة في خدمة وصالح البشر, ولن تكون أبدا نقطة صراع أو حروب فيما يأتي من الزمان, فالأمم والشعوب كافة عطشي للحياة الآمنة وللترقي والاستمتاع بكل أطايبها التي وهبها لهم الخالق العظيم.. إن لم يكن رجل الدين, فمن تراه, يعلم بذلك. إن لم يكن رجل الدين هو أول من يطوي صفحات ماض أليم, عانت البشرية منه عناء شديدا وسالت الدماء وسكبت الدموع أنهارا, عاشت لقرون طويلة في مأساة الحزن والكراهية والعداء, ويقلب صفحات جميلة, متوهجة, يستنبط من سطورها المنيرة أن البشر جميعا أخوة, فهذه حقيقة لايختلف حولها اثنان, وان الله خلقهم جميعا, ومصيرهم اليه, تشرق شمسه علي الاخيار والاشرار, ويسكب نعمه علي المؤمنين وغير المؤمنين, وحده تبارك وتعالي هو الديان, العليم بسرائر الضمائر, وفاحص القلوب والنوايا, هل نظن أن الحضارات العظيمة التي نشأت قبل الأديان الإبراهيمية, التي زخرت بالحكمة والقيم والأخلاق السامية, لم تكن فيها نفحات إلهية مهدت عقل الانسان للأديان الموحدة, وأن الله لم يتخل يوما عن عياله البشر, وإنما تصحبهم أنواره, في مسيرة التاريخ وإلا لتحول العالم إلي غابة من الوحوش الضارية وخلا من الأتقياء الصالحين, تري ان لم يكن رجل الدين, ينشر هذا الفكر فمن تراه ينشره؟ إذن يمكن القول ان رجل الدين صاحب رسالة لاشك في ذلك, غير أن خلطا شديدا حدث بين المثل والنظريات من جهة, وبين الواقع والتطبيق من جهة أخري, ولنتوغل قليلا في التاريخ لنري كيف تحولت الرسالة حينا إلي مهنة, وحينا إلي سلطة وحينا إلي سياسة. وجوده من صميم الواقع البشري وفي نسيج الحاجة النفسية والاجتماعية عند الانسان, فهل هي غريزة كامنة في الأعماق, تبحث عنه؟ ومنذ عصور قبل التاريخ, وحتي أيامنا أرتبط رجل الدين دوما بقضايا الغيب والمستقبل, وأحيانا بالسحر والشعوذة, ظل المرجع عند الملوك والأباطرة وعند البسطاء من عامة الناس, له سطوة ونفوذ وثراء, وفي التراث اليهودي كهنوت, كما في التراث المسيحي, أما التراث الاسلامي فليس فيه كهنوت, وإنما أئمة وفقهاء وعلماء دين, إنها ظاهرة انسانية, وفي بعض الحضارات القديمة بلغت سطوة رجل الدين إلي حد بعيد, ونصب رئيس الكهنة نفسه فرعونا, كما فعل آبي رئيس كهنة آمون بعد موت توت عنخ آمون, إن شهوة الحكم, وجاذبية السلطة والرغبة في السيادة, أمور مصاحبة دوما لطبيعة رجل الدين في أي زمان وأي مكان, كما صاحبها رغبة في الثراء والتمتع بمباهج الدنيا, ومن ثم تتحول الرسالة إن لم يكن حاملها كفئا لها ومعدا اعدادا قويا أحيانا كثيرة إلي مهنة, تسرق ضمائر البسطاء, وتحرك وجدانهم وتؤثر أشد الاثر في المناخ الفكري والاجتماعي بل وأحيانا تقود الجماعة الانسانية. وتأمل معي فيما يحدث علي الساحة العربية لنري أن القضية المحركة لمجتمعاتنا الأساسية في أوطاننا, ليست قضية بناء المستقبل, وغربلة الماضي, واستشراف عصر علمي جديد, بقدر ماهي صراع ورغبة في السيادة والسيطرة, ان هناك تيارين لا ثالث لهما يتدفقان علي العقل والوجدان العربي. تيار الذين درسوا تاريخ الأمم وأدركوا خطر دولة رجل الدين أو الدولة الدينية وكارثة حكمهم كما أثبتتها الخبرة الانسانية منذ القدم, وبعد أن قامت ثورة فرنسا1798 وتحررت من استعباد رجل الدين للضمير الانساني, وتخلصت من براثن الحكم الثيوقراطي أو الحكم باسم الله والسماء والدين, وانطلقت إلي حضارة جديدة فتغير وجه العالم, وتبدلت سبل الحياة, وانطلق الابداع في كل مكان, لم تأت الثورة من فراغ بل,بيعد مخاض عسير في الفكر والفلسفة والفن والأدب خلال ثلاثة قرون, ولا يتحقق ذلك إلا اذا سادت حرية الضمير وحرية الفكر, وحرية التعبير. أما التيار الثاني الذي يحاول أن يغرق مجتمعاتنا في بحار من الظلام, ويحولها إلي مجتمعات مغلقة, أسيرة للماضي, يرفض الحقيقة الصارخة وينكر تقدم العلوم, ان الانسان هو القضية وهو الحل, وليس الحل في النظريات القديمة, والتقاليد البالية وتلك أمور لاتمت بصلة للدين الصحيح الذي يحرر الانسان, وجاء لخدمة الانسان, وغايته إسعاده, وتنظيم حياته في مجتمع العدل والمساواة والحرية. التيار الأول يريد مجتمعا لخدمة الانسان والتيار الثاني يريد انسانا مستعبدا للمجتمع باسم الدين. ان الدين هو نور للسياسة لكنه ليس سياسة. وهو نور للاقتصاد وليس اقتصادا. ونور لعلم الاجتماع وليس علم الاجتماع. فالسياسة والاقتصاد وسائر الأنشطة البشرية تستمد النور والعون من الدين الذي هو كنهر جارف يمد الجداول بالحيوية والتجدد.. ورجل الدين يحمل شعلة النور, دون أن ينزلق في سياسة أو اقتصاد أو سلطة دنيوية أو ثراء دون حق. الشعوب في حاجة إلي رجل الدين صاحب الرسالة يحمل للناس أنفاس السماء ونبضات المحبة والرحمة الإلهية, يزرع الأمن والسلام في القلوب, مجاله ضمير وعقل ووجدان البشر, يحب الناس جميعا لانهم عيال الله ورسالته أن يجذبهم إليه, إنه صاحب رسالة الحب والعدل وما أحوج العالم إلي صناع الحياة, وبناة الرجاء وحراس الحرية.