لا تخلو حياة الآدمي, مهما يكن انتباهه وتيقظه وتدبيره وحرصه واحتياطه, من دور قليل أو غير قليل, للمصادفات في حياته.. تأتي أو تأتيه علي غير موعد ولا توقع, يحمل بعضها رياحا طيبة. قيل فيها بالأمثال: يا محاسن الصدف.. رب صدفة خير من ألف ميعاد.. ويحمل بعضها نذرا غير طيبة, وهذه وتلك تلعب في حياة الآدمي دورا إيجابيا أو سلبيا, وقد يخرج بعضها عن نطاق القدرة الفاعلة علي التعامل معها, فتلقي برياحها الطيبة أو غير الطيبة علي الحاضر وربما علي المستقبل. رأيت علي مدي سنوات طويلة, غير قليل من الأسوياء الذين التزموا الجد والاستقامة والحرص والتدبير والحذر والاحتياط, ومع ذلك دهمتهم مصادفات من فعل المقادير دفعت بهم دفعا, علي غير ارادة معدودة منهم الي مواطن الخطأ أو الزلل.. درجنا في علم النفس, وفي علم الإجرام إذا دخل الخطأ في حومة الجريمة علي ان نطلق عليهم مخطئ بالصدفة, أو مجرمي الصدفة بحسب نوع وقدر الزلل!! رأيت شبانا أسوياء, دفعهم التطلع الي تدبير مستقبلهم, الي التهرب من التجنيد, وهو جريمة.. وانزلق منهم من قرن ذلك باصطناع محرر أو محررات مزورة للإعفاء من التجنيد, أو للحصول علي تصريح بالسفر إلي الخارج, فيجد نفسه علي غير التفات ودون جنوح اجرامي متأصل فيه في حومة الجريمة.. متهما أمام محكمة الجنايات أو المحكمة العسكرية العليا بجنايات التزوير في محررات رسمية! ولو انتزعت هذه السقطة واستبعدت من سجل حياته, لوجدته شخصا سويا مسالما لايجنح الي الجرم ولا يحبه, ولكن دفع اليه دفعا بغير تحسب, لمصادفة طلبه لتجنيد قد لايحل دوره علي غيره, أو دعي اليه لان اخاه الأصغر بلغ سن الرشد فخرج هو بذلك من باب الإعالة كسبب للإعفاء أو التأجيل, فلم يحسن التعامل مع الموقف, وساقته المقادير الي وهدة الجريمة! رأيت عبر نصف قرن كثيرا من الحادثات التي انطوي الخطأ فيها علي محض مصادفات لو لم تقع لما وقع الخطأ أو الجرم, ولكني أريد ان أحدثك اليوم عن مأساة انسانية لأب طيب مستور الحال, يذوب حبا ووفاء ورعاية لأسرته, ويلتزم جادة الطريق لا يحيد عنه يمينا أو يسارا, يرعي الله في عمله وفي تربية أولاده, ويكد ويكدح ليوفر لهم حياة كريمة ومستقبلا واعدا.. لولا مصادفة لم يحسب حسابها عصفت بحياته عصفا. في يوم مشئوم, وقد أقلقه حال ابنته الأثيرة لديه, اصطحبها وأمها ليعرضاها علي طبيب لتشخيص ما تشكو منه وموافاتها بما يلزمها من علاج, جلس والأم يترقبان نتيجة فحص الطبيب, واستبشرا خيرا حين التفت الطبيب اليهما ببسمة مبهجة ظنا انها تحمل بشارة السلامة من المرض, ولكنها نزلت عليهما كالصاعقة حين بشرهما بأن ابنتهما حامل, بذلا جهدا جهيدا لإخفاء أثر المفاجأة المروعة عليهما, فالبنت تلميذة ولم تتزوج, والحمل الذي يبشرهما الطبيب به سفاح حملت به البنت في الحرام, متي كان ذلك وأين وقع ومع من؟! ظلت هذه الأسئلة الحائرة تعصف بالأب والأم وتهز كيانهما وتبعثر نفسيهما الي أشلاء ممزقة تقتلها الصدمة, وتهدها الفاجعة, وتحاصرها الحيرة من كل جانب! ما ان تواري الأب والأم مع ابنتهما وراء باب السكن, حتي انفجرا يسألانها: من الفاعل, وأين ومتي وكيف؟ والفتاة مرعوبة ترتجف من الذعر والخوف وهول انكشاف امرها لأبيها وأمها بعد ان حاولت مستطاعها ان تخفيه عساها تصل الي حل مع من اغتال عذريتها وترك لها الجنين, وهرب لايبالي بما سوف تواجهه المسكينة, ومع ذلك ها هي رغم محنتها وخيبة أملها فيه لاتزال تمني النفس باستيقاظ ضميره وتقدمه لإصلاح ما وقعا فيه, وهي تخشي أن تصرح لأبيها باسمه مخافة ان يقتله أو يؤذيه فيضيع أملها الأخير في جبر ما انكسر, وكلما لاذت البنت بالصمت زاد اشتعال غضب الأب.. تخيل انه يستطيع ان يدفعها للاعتراف وكشف المخبوء اذا انفرد بها وأغراها بالامان لتفصح له عما تكتمه.. اخذها الي احدي الغرف واغلق عليهما الباب, وجعل يطمئنها ويمنيها.. ولكن هيهات ان تفوه البنت المذعورة بكلمة وقد انعقد لسانها من الخوف والهلع.. وكلما استمر صمتها ازداد سعير غضب ابيها, فانتقل من الإغراء والترغيب الي الترهيب, ومن الترهيب الي الضرب, وظل الضرب يتصاعد ويتصاعد في موجات مجنونة ذهب عنها العقل, وجعلت الصفعات ثم اللكمات تضرب المسكينة في كل اتجاه, والفتاة تتهاوي أمام عين ابيها وهو لايري أنها تنهار, فيمعن في الضرب المجنون أملا في معرفة الفاعل لإنقاذ شرفه المثلوم, وظل يضرب ويضرب ولم يفق إلا وابنته قد سقطت بين يديه جثة هامدة!! لم يصدق ان ابنته ماتت بيده, فطفق يحتضنها وينكفئ عليها ويبكي, ولم يفصله ويرفعه عن جثمانها المسجي الا اذرع الشرطة التي قدمت اثر بلاغ سريع, لتأخذ الأب الي قسم الشرطة, وترسل الجثمان الي المشرحة للبدء في إجراءات التشريح بأمر النيابة العامة التي رفع اليها الامر! كانت مصيبة الرجل واسرته مصيبتين بل ثلاث: الفضيحة المرة, ووفاة الابنة, واتهام الأب بقتلها.. اتهمته النيابة العامة بجناية ضرب ابنته ضربا افضي الي موتها, وقفت أدافع عنه امام محكمة الجنايات, فماذا عساي أقول: ان الجاني هو المجني عليه.. هكذا قلت لهيئة المحكمة.. لقد اجتمعت فيه الصفتان.. ان وجيعته في مصرع فلذة كبده وضناه, أشد وطأة مما يتعرض له من عقاب عن جناية ضربها ضربا وان لم يقصد به قتلا الا انه أفضي الي موتها. ان السجن مهما يطل, مآله الي نهاية يخرج بعدها من أسر الأسوار الي أسر نفسه التي سقطت الي القاع وتبعثرت اشتاتا, لا تفارقه صورة ابنته وهي تتهاوي قتيلة بين يديه, ولا استغاثتها به ان يرحمها, ولا أنينها ودموعها التي لم يرها إلا وهي جثة هامدة يحاول أن يرد إليها الروح دون جدوي.. هذه الصورة ملازمة له في صحوه وفي منامه وفي احلامه وكوابيسه. ان هذا الجاني أو المجني عليه قد سبق العقاب اليه قبل العقاب الذي سوف تنزله به المحكمة, ان ما يعانيه أشد وقعا ووجيعة وألما من أي عقوبة, قلت للمحكمة: فماذا انتم فاعلون بهذا المسكين الذي أجرم بالصدفة وقتل ابنته بالصدفة, وروع بوفاتها بين يديه في لحظة مشئومة وكان قبلها بلحظة أبا سويا مستورا.. يتمني لهذه الابنة المسكينة كل ما يتمناه الاب لفلذة كبده من نجاح وغبطة وسعادة وطول حياة! اذكر ان المحكمة يومها ترأفت به وهي تعاين بنفسها انهياره وتهالكه وتضعضعه, فاستعملت سلطتها في الرأفة وإيقاف التنفيذ بمقتضي المادتين55,17 من قانون العقوبات, ونزلت بالعقوبة درجتين الي الحبس سنة مع ايقاف التنفيذ!! استقبل الاب المكلوم في ابنته هذا الحكم واجما ساهما, لم تبد عليه أي فرحة بهذه الرأفة الشاملة التي استعملتها معه المحكمة بغير حدود, ومشي منصرفا واسرته من حوله.. يلملم نفسه مطأطئ الرأس وعلي اسارير وجهه ألم الذكري التي أوقن انها لم ولن تفارقه ما بقي له من عمر! حياة الآدمي مهما بلغ لديه الحدس, أو ملكة التوقع, مليئة باحتمالات, وازمة المصادفة أيا كانت, أنها تأتي أو تداهم علي غير توقع, والتوقع هو الذي يهييء الاستعداد والتأهب واجراء الحسابات واتخاذ التدابير, بينما المفاجأة التي تصاحب المصادفات لا تتيح لمتلقيها شيئا من ذلك فيؤخذ علي غرة, وليست المصادفات كلها من نوع واحد أو علي وتيرة ما يتغني به المطربون: كان يوم حبك أجمل صدفة, يوم ماقابلتك مرة صدفة فهناك مصادفات مرة, وهناك منها ما يبلغ حد الفواجع, والحوادث بعامة تأتي علي غير اتفاق وبغير تنبيه سابق, فيشب الحريق فجأة, أو تنحرف السيارة فجأة, أو يداهم التسمم بغتة, أو ينهار العقار الجديد بلا مقدمات! ان المجاهيل والاحتمالات والمصادفات التي تواجه الآدمي منذ ميلاده حتي وفاته, توجب عليه ان يتخذ من تجاربه شاحنا لعقله وملكاته.. ان يمعن التفكير والتأمل, وان يثري ملكة التوقع لديه, ليكون أقدر علي مواجهة مخبوءات المقادير وشتي الاحتمالات والمصادفات.. وليكون أكثر فهما للحياة وسننها وأعمق رؤية لما يجري فيها, وأصوب وأعقل نظرا وتصرفا فيما يداهمه تقارير المصادفات, فالاحتمالات وأحوالها لن تنتهي من عالم الآدمي, ولن يكون عنده مفاتح الغيب.. ما يملكه هو أن يعمل عقله وفكره, ونظره وإمعانه, ليكون اقرب الي الفهم والتوقع وحسن التصرف, وأجدر بالحياة التي وهبها الخالق عز وجل له ولكل الأحياء. نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية*