أيام معدودات ويقبل علينا شهر رمضان الفضيل وتنقلب حياة المصريين رأساً علي عقب وتنقسم الحياة اليومية إلي نهار حار ملتهب صائم مليء بالاختناقات والصراخ والصراع مع النفس والآخرين وليل بدايته روحانية في صلاة التراويح وتجمعات بالشوارع والحواري والنوادي والجوامع والمساجد ومظهرية دينية وتجليات رمضانية يختتمها المصريون بمتابعة التليفزيون وشاشته الملونة أو يمضون بقية الليل في الترويح عن نهارهم القاصي ومسائهما المدعي بالجلوس في خيم رمضانية غنائية ويشربون الشيشة ويأكلون أطيب الطعام حتي موعد أذان الفجر والإمساك.. ونظرا لهذا الانشطار الإنساني الرمضاني ذي الصبغة المصرية والنكهة الخليجية والتوجه الوهابي نحو المناسك الرمضانية والطقوس الترويجية ورواج أسواق العمرة الرمضانية للأوائل والأواخر ومايتبعها من سياحة شرائية ودعاوي تميز وترف طبقي وفق الشركات الخمس والعشر نجوم فإن الشاشة التليفزيونية تواجه الآن حرباً ضروساً بين شركات الإنتاج والإعلان وحرب الإعلاميين الجدد والنجوم السوبر وبرامج الطبخ والفتاوي والمسابقات والمسلسلات الحصرية زادت المساحات الإعلانية التي تضمن الترويج والربحية علي حساب كل المعايير الفنية والقيم الأخلاقية وسلام كبير للقيمة والفن وللإعلام.. وحيث انتشرت القنوات الفضائية ازدحمت الشاشة الإعلانية بتنويهات عن برامج الفنانين والفضائح وكرسي الاعتراف والتحليل النفسي لهؤلاء الرموز والقدوة التي يطرحها الإعلام علي الملتقي ومعها ذلك السيل الجارف من المسلسلات التي تسوق لنجومها وموضوعاتها بغض النظر عن المستوي الدرامي أو الرسالة الفنية حتي أن إحدي القنوات الخاصة تبث إعلانا وتنويها عن مسلسل لنجمة إغراء قدمت عملا في رمضان الماضي أثار جدلا ولم يقدم أي جديد أو أي مستوي فني لاسيما أنه إعادة لعمل سينمائي عن المخدرات في فترة الثمانينيات ولأنها حالة من الإفلاس الإبداعي والفقر الفكري فإن ذات النجمة تعيد سيرة ومسيرة الفضليات السابقات من الممثلات والراقصات اللاتي برعن في أدوار الإغراء والمرأة الأنثي التي تتزوج عدة رجال قد يصلون إلي خمسة كما في فيلم سابق ومسلسل لاحق وآخر قادم سوف يعرض علي الشاشة الرمضانية تيمنا بالشهر الفضيل وحتي تكتمل الدائرة الحياتية مابين ساعة لربك وساعات لقلبك وحسك ومزاجك والآن ذلك الجهاز الإعلامي يتسابق ثقافيا مع الحالة المزدوجة وذلك المجتمع النفاقي المنشطر علي نفسه وهو يستحدث سلوكاً وحياة غير سوية تتمادي في مظهريتها سواء الدينية أو الدنيوية.. وحتي لاتفرض علي المشاهد الخريطة التليفزيونية وتكرر وتعاد ذات البرامج الملحة وكذلك تعرض أعمالاً درامية إرضاء لنجوم وشركات إنتاج فإن الخريطة البرامجية من الممكن أن تصاغ عبر لجنة متخصصة لايعمل أعضاؤها في المجال الإعلامي أي أن تكون لجنة من الحكماء من تخصصات مختلفة وتوجهات مستقلة حرة مستنيرة لكن أيضا تراعي طبيعة الشهر الكريم وتحافظ علي مستوي الإعلام والريادة المصرية مع التركيز علي مفهوم الهوية المصرية للتليفزيون وبعيدا عن السياسة والقضايا الخاصة والتوجهات الحزبية لأن ذلك الجهاز خطير ومؤثر في رمضان يحدد ملامح الشخصية المصرية ويعيد صور الأمن والأمان والسلام الاجتماعي المفقود والذي خرج في زحمة الصراع والاحباط ولم يعد حتي الآن.. فكرة لجنة المشاهدة الحالية للأعمال الدرامية هي فكرة صائبة لكنها بكل أسف تلاقي توازنات إنتاجية وتسويقاً وإعلانات بالرغم من أن الهدف هو انتفاء واختيار الأفضل للعرض في ذلك المهرجان الرمضاني عبر عدة قنوات محلية رمضانية ومتخصصة كلها تتبع التليفزيون المصري ومن هنا كانت فكرة لجنة الحكماء لوضع خريطة محايدة متكاملة دينياً وثقافيا ودراميا للشاشة فكرة تستدعي الدعم واتخاذ القرار الذي يضمن مستوي متميزاً للشاشة وحتي لانفاجأ مرة أخري بأن السطوة الكبري للنجوم وأنصافهم سواء مذيعين أو مذيعات. ضيوفاً أو ضيفات أو حتي شخوصاً وأبطالا في المسلسلات أو حتي داعيات ودعاة فإذا التدني في الحوار والكلمات وتدهور مستوي اللغة والثقافة وتحويل القدوة إلي التمثيل والكرة والمطبخ والفتاوي والأحلام.. ان دراسة إعلامية واجتماعية وثقافية متخصصة لصورة الشارع المصري في رمضان نهاراًوليلاً تعد سفراً حياتياً لتكوين لمجتمع المصري في الألفية الثالثة يكشف عن مواطن الخلل في الشخصية المصرية ويؤكد ان المظهرية الطقوسية الدينية توازن مع المادية والمتعة والتدهور الأخلاقي والثقافي والطرح الفني الإبداعي.. تشخيص الحالة المرضية هو الطريق إلي الدواء والعلاج ولكن الشافي المعافي هو الله.. نقلا عن جريدة "الجمهورية" المصرية