في 18 نوفمبر عام 1944 كتب الجنرال "دونوفان" إلى روزفلت، مقترحاً عليه قيام الولاياتالمتحدة بإنشاء "مكتب الخدمات الاستراتيجي"، وكان الهدف من ذلك أن تكون واشنطن على إطلاع واسع على قدرات الدول الأجنبية ونياتها وأنشطتها، وأن يكون المكتب جهاز خدمة إخبارية عالمية تقدم إلى الرئيس نشرات يومية لإطلاعه على ما يجري في العالم. ونظراً لحاجة صانعي القرار السياسي الأميركي إلى رؤية أوسع ومعرفة أشمل بما يحدث في العالم، وإلى نفوذ خارجي أكثر وأعمق وأقوى، بحيث تكون لدى أميركا قدرة على بسط تأثيرها إلى ما هو أبعد بكثير من حدودها، خاصة في مواجهة المد الشيوعي الذي كان يتحرك في تلك المرحلة، بقيادة الاتحاد السوفييتي، لاجتياح العالم... فقد أمر الرئيس الأميركي ترومان، في 18 سبتمبر 1947، بإنشاء وكالة مختصة للاستخبارات المركزية تمثل خط الدفاع الأول عن الولاياتالمتحدة، وترسم سياستها في الخارج على المديين، القريب والبعيد، وتوجه هذه السياسة لتحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية العليا. وعلى كثرة التقارير والدراسات التي تحدثت عن هذا الجهاز وعمله وممارساته وأسراره والعمليات التي نفذها منذ إنشائه، فإن ما يميز كتاب "إرث من الرماد"، لمؤلفه "تيم واينر"، عن غيره من الكتب الصادرة حول ذات الموضوع، أنه استند إلى نحو خمسين ألفا من وثائق ال"سي آي إيه" والبيت الأبيض ووزارة الخارجية، وأكثر من ألف رواية شفوية لمسؤولين في الاستخبارات الأميركية وجنود ودبلوماسيين، وأكثر من ثلاثمائة مقابلة أجريت مع مسؤولين في ال"سي آي إيه" وقدامى العاملين فيها، بمن فيهم عشرة مدراء سابقين للوكالة. ويبين الكتاب أن نجاحات الوكالة كانت تخفي خلفها الكثير من النكسات التي أهدرت دماءً غزيرة وأموالا طائلة، سواء في الصف الأميركي وأعوانه، أو في جانب الشعوب التي كانت هدفاً لخطط وأنشطة الوكالة. يقول الكتاب إن الوكالة كانت تتعمَّد إخفاء كثير من الإخفاقات والجرائم على الرؤساء، خاصة في عهد ترومان وإيزنهاور وكيندي وبوش. ومن ذلك ما حدث في عام 1945 عندما قرر ترومان طرد الجنرال دونوفان بعد ستة أسابيع على إلقاء أميركا القنابل الذرية على اليابان، وأعطى المخابرات مهلة عشرة أيام لتحل نفسها. ثم ما تم في عهد بوش عندما أُبعد تينت من رأس المخابرات المركزية؛ بسبب التضليل حول أسلحة الدمار الشامل العراقية. الكتاب يزيح الستار عن الكثير من الممارسات التي كانت تقوم بها المخابرات المركزية الأميركية في الخفاء؛ مثل الطرق والأساليب والوسائل التي كانت تتبعها لتغيير الأنظمة والقادة في العديد من الدول التي لا تتفق مع خط سير الولاياتالمتحدة، وأيضاً عن الصراع الأميركي السوفييتي المرير أيام الحرب الباردة، وخاصة حول مشروع السلاح النووي السوفييتي الذي فشلت المخابرات الأميركية في رصده، والتعاون الوثيق بينها وبين أساتذة وطلاب أشهر الجامعات، ومع العديد من أصحاب المهن المختلفة لتدعيم نفوذها، والاتصال الوثيق بينها وبين رجال الإعلام في عدد من كبريات الصحف مثل "نيويورك تايمز" و"الواشنطن بوست" وبعض المجلات الأسبوعية المعروفة أيضاً... إلى درجة أنه أصبح في وسع مدير المخابرات المركزية "دالاس" التقاط الهاتف وتحرير موضوع عاجل، وسحب أي مراسل صحفي مزعج، أو شراء خدمات رؤساء التحرير ومدراء مكاتب الصحف في برلينونيويورك وطوكيو... كما كانت غرف الأخبار الأميركية واقعة تحت سيطرة قدامى قسم الدعاية الحكومية. * نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية