منذ وقت مبكر في تاريخ النشاط الصهيوني لاغتصاب فلسطين، ظهرت عملية توزيع الأدوار بين فريق المعتدلين في الأطماع والمشتطين فيها. هناك من يعتقد بين الباحثين أن هذه العملية تخضع لتخطيط مسبق واتفاق مبيت بين الفريقين. لكني أعتقد أن هذا التوزيع للأدوار يبدأ تلقائياً، ونتيجة لوجود خلافات حقيقية في التعامل مع الواقع طبقاً للمراحل التاريخية المختلفة في الصراع، وفي النهاية تنتهي هذه الخلافات إلى تنازل الطرف الذي يثبت الواقع خطأ رؤيته، سواء كان هذا الطرف المعتدل أم الطرف المشتط. رأينا ذلك في مطلع العشرينيات من القرن العشرين عندما انشقت المنظمة الصهيونية العالمية. فقد رأى فلاديمير جابوتنسكي؛ وهو قائد الصهيونية التنقيحية التي أنجبت فيما بعد زعماء "اليمين" مثل مناحم بيجين وصولاً إلى نتنياهو؛ أن الهدف الذي تعلنه الحركة حول إقامة وطن قومي لليهود يجب أن يتضمن النص على أن حدود هذه الدولة تشمل الضفة الغربية، وكذلك الضفة الشرقية لنهر الأردن. انشق "جابوتنسكي" وكون المنظمة الصهيونية الجديدة رافعاً شعار الشطط هذا. على الناحية الأخرى، كانت قيادة المنظمة الصهيونية الأم ترى أن موازين الواقع لا تسمح بالإعلان عن هذه الحدود نظراً لعدم موافقة دولة الانتداب بريطانيا على ذلك. كانت القيادة تدرك أن الحركة لن تلقى النجاح في إنشاء "الوطن القومي" إذا تصادمت مع الدولة الراعية القوية التي أصدرت وعد بلفور 1917، ثم أصدرت من عصبة الأمم قرار الانتداب على فلسطين وضمنته وعد بلفور. في نهاية الأربعينيات ونشوب حرب 1948 تجدد الخلاف بين مناحيم بيجين وريث جابوتنسكي في قيادة "اليمين" الصهيوني وبين بن جوريون زعيم التيار "العمالي" المسيطر على المنظمة والوكالة اليهودية والهاجاناه. في لحظة تصور بيجين أن مسار الحرب يسمح بالتوغل في الضفة الغربية غير أنه سرعان ما رضخ لرؤية ولإرادة بن جوريون، التي بدت في صورة الاعتدال أمام بريطانيا الدولة الراعية. كان الرضوخ استسلاماً لموازين اللحظة التاريخية من جانب مناحيم بيجين وتسليماً بحنكة بن جوريون في وضع الأساس لدولة إسرائيل دون صدام مع الدول العظمى. إن هذا التسليم سرعان ما تحول إلى انقضاض فور وقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال عام 1967 فأعلن بيجين شعاره أن الضفة جزء من أرض إسرائيل الكاملة، وأنه لا تنازل عن شبر واحد منها للعرب حتى مقابل السلام. إن تجاوب معسكر بن جوريون الذي يمثله اليوم في الساحة الإسرائيلية حزب "العمل" مع موازين الواقع الجديد عام 1967 قد تمثلت في إصدار قانون بضم القدسالشرقية إلى إسرائيل، وفي وضع مخططات الاستيطان في الضفة، والتي راحت تتضخم يوماً بعد يوم، وترسم واقعاً سكانياً جديداً على أرضها. التوافق الذي يظهر أمام العيون حول مخطط الاستيطان بين "اليمين" و"اليسار" في إسرائيل؛ في اللحظة التي يبدو فيها الواقع مواتياً لإطلاق الأطماع على أقصاها؛ هو الذي يعطي الانطباع بأن توزيع الأدوار كان منذ البداية مجرد تمثيلية متفق عليها. *نقلا عن صحيفة الاتحاد الاماراتية