عندما تركب الطائرة وقبل انطلاقها فوق السحاب إلي طبقات الجو العليا، سوف تأتيك دوما مجموعة من تعليمات الأمان التي لا بد من اتباعها، ومنها واحدة لافتة للنظر تقول إنه في حالة حدوث اضطرابات هوائية أو انخفاض الضغط في الطائرة، سوف تهبط عليك من فتحة أعلي المقعد كمامة للأكسجين عليك أن تضعها علي أنفك فورا بالطريقة الموضحة. بعد ذلك، يأتي التأكيد الذي يشبه التحذير، وهو أنه عليك أن تبدأ بنفسك قبل مساعدة الآخرين حتي ولو كانوا أطفالك الذين عادة ما يكونون موضحين في الصورة أو الفيلم المعروض في شكل طفلة جميلة. الرسالة هنا لا تقول إنه عليك مساعدة نفسك قبل مساعدة الآخرين فقط، وإنما تقول أيضا إن مساعدة نفسك هي شرط ضروري ولا بد منه لمساعدة الآخرين لأنك لو فقدت وعيك فلن يغني كثيرا أو قليلا ما تحاول عمله من شهامة أو محاولة لإنقاذ من تحب. وفي الأسر المصرية أو في الحقيقة كل أسر العالم، فإن الجميع في الأسرة يتوقع من الأصحاء تقديم العون للمرضي، ومن الأغنياء والأكثر حظا أن يساعدوا الفقراء والأقل حظا. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للدول والأمم عامة حيث يكون 'تراكم الثروة' سابقا علي تقديم المساعدة للمحتاجين أو توزيعها في المجتمع، لكن الثابت أن كل الدول المتقدمة والغنية وصاحبة الحظوة التكنولوجية بدأت دائما بالبحث عن مصادر قوتها، وهؤلاء الذين يمتلكون الثروة فيها والجماعة الأكثر علما بين أبنائها، لأن في ذلك تقع مفاتيح تغيير الدولة ونقلها من حالة متواضعة القيمة والمكانة إلي حالة أخري ذات قدرة ونفوذ وقوة. وفي مصر، وربما في دول العالم النامي الأخري يوجد دائما نوع فريد من المحاجاة في تغيير الأحوال المصرية تبدأ بالضعف والفقر والهوان، ولا يوجد أحد ولج إلي الساحة السياسية قديما أو حديثا إلا وبدأ بالحديث عن نسبة الأربعين بالمائة من الفقراء في البلاد. البعض ينسبها مجمعة إلي مصادر البنك الدولي، والبعض الآخر أكثر دقة وصدقا فيذكر أن نسبة الفقراء في مصر هي 20% بينما هناك 20% أخري قريبة من الحد المعلوم للفقر في العالم. وعلي أي الأحوال وسواء كان الحال هذا أو ذاك فإنه لا أحد يقول لنا ما هي أحوال 60% من الشعب المصري أو تبعا للمنطق المشار إليه من قبل ما هو حال الأصحاء والمستورين والأغنياء والأقوياء والعلماء في المجتمع والذين عليهم بعد ذلك ليس فقط مساعدة الآخرين، ولكن العمل معهم علي وصول الطائرة أو السفينة أو الأمة إذا شئت إلي بر التفوق والرخاء. المسألة هنا ليست إطلاقا حكاية نصف القدح الممتلئ ونصفه الفارغ أو الفارق بين المتفائل والمتشائم حول أحوال الوطن، ولكن المسألة كلها تقع في إطار السياسة التي هي في جوهرها فن وأسلوب التغيير الآمن، حيث لا يمكن للضعفاء أن يقودوا الأقوياء أو للمرضي أن يساعدوا الأصحاء أو للفقراء أن يحققوا تراكم الثروة من خلال توزيعها لكي يكون الجميع فقراء. وكل ذلك يوجد مجاله في السياسة أيضا حينما تختلط ملامح المركزية السياسية، حيث تستحوذ السلطة التنفيذية علي قدر كبير من السلطة علي حساب السلطات الأخري مع مظاهر للديمقراطية وحرية التعبير والتنافس بين المؤسسات والأفراد علي إعلاء الشأن العام. وهنا يكون التغيير بتوسيع الأخير علي حساب الأول حتي يعتدل الميزان وتقوم الديمقراطية. هذه المقدمة طالت أكثر مما ينبغي، ولكنها كانت ضرورية حتي يستقيم المنطق، ويتم التذكير بالبدهيات التي تضيع في بلادنا وسط ضجيج كبير من النخبة السياسية والفكرية. فلا توجد مهارة كبيرة في التذكير بالفقراء والعشوائيات وانتشار فيروس مرض الكبد الوبائي وارتفاع نسبة البطالة الصريحة أو المقنعة، وضعف التعليم المصري، ووجود نسبة من الأمية تصل إلي 28% بعد عقد كامل من القرن الحادي والعشرين، ووجود تشوهات في النظام السياسي المصري. فكما هي الحال في وضع الطائرة التي أشرنا لها في أول المقال، فإن العلاج والتعامل مع كل ذلك لن يتم إلا من خلال بقية الصورة التي نستمد منها القوة لمواجهة الضعف، والغني للتعامل مع الفقر، والعلم للقضاء علي الجهل. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال النظر إلي مصر وكأنها في حالة مسيرة تاريخية تتغير فيها بالفعل، وفي حالة التغيير هذه تختلط الأحوال كما يجب لها أن تختلط، وتصبح المهمة هي كيف نجعل ما هو إيجابي يتفوق ويغير ما هو سلبي، وكل ذلك بسرعة تتفق مع التنافس الجاري في العالم وإلا ظللنا نسبيا علي الأقل، واقعين ضمن إطار التخلف، وبعيدين عما يجب أن نكون فيه بين الدول المتقدمة. ولدينا في هذا الشأن أرصدة مودعة داخل أرضنا. إن رصيدنا الأول أن مصر قد صارت بلدا حرة لأول مرة منذ قرابة 2500 عام دون احتلال أو حاكم أجنبي، وعادت لها شخصيتها الدولية المستقلة كما كانت في عهد الفراعنة الأوائل. هذا الرصيد هو الذي علينا المحافظة عليه من خلال زيادة عناصر القوة المصرية حتي لا يحدث لنا ما حدث طوال ذلك التاريخ الطويل ومن خلاله نواجه تحديات الأمن القومي سواء جاءت من إسرائيل أو جاءت من أعالي النيل ومجراه أو جاءت علي حدودنا التي يريدها بعض الأشقاء مثقوبة بالأنفاق. ولكن تهديد الأمن القومي أمر، والبقاء أمر آخر، ومع خروج آخر إسرائيلي من أرض مصر، فإن التكامل الإقليمي للدولة المصرية بات كاملا غير منقوص، وبقي بعد ذلك ما الذي سوف يفعله المصريون باستقلالهم وأراضيهم وحريتهم من القوي الأجنبية؟ رصيدنا الثاني يوجد في مجموعة من التغيرات الاجتماعية الجوهرية التي تقول إن مصر أكثر شبابا من أي وقت مضي حيث إن ثلثي عدد المصريين يقعون دون سن الخامسة والثلاثين، وبلغ العمر المتوقع عند الميلاد لهم 72 عاما، وهو ما يعني أن المصريين خلال العقود الثلاثة الماضية ارتفع عمرهم 15 سنة كاملة كان مستحيلا تحقيقها دون ارتفاع في مستويات الصحة والتغذية. وهؤلاء أيضا مع غيرهم يوجد بينهم 72% من المتعلمين، وهي نسبة رغم كل عيوبها المعروفة كما ونوعا لم يتوافر مثلها منذ قام الملك مينا نارمر بتوحيد القطرين في شمال مصر وجنوبها تحت تاج واحد مجيد. وهؤلاء أخيرا متصلون ببعضهم البعض وبالعالم كما لم يحدث أبدا في تاريخ مصر ومن خلال الكومبيوتر وشبكات الإنترنت، وحتي القدرة علي السفر والترحال والحركة داخل مصر وخارجها. ومن هذه النوعية من المصريين يمكن الحصول علي الموارد البشرية اللازمة للقضاء علي الأمية، والدفع بعجلة الإنتاج والتعلم من دول العالم المختلفة ونقل تجاربها الناجحة إلينا، وباختصار الأخذ بيد المجتمع كله إلي حيث يجب أن يكون. والرصيد الثالث أن مصر الآن أكثر تماسا مع جغرافيتها، فلم تعد فقط دولة تعاني من انفجار سكاني لثمانين مليون نسمة، وإنما هي دولة تعيش الآن بحق علي مليون كيلومتر مربع حيث لم تعد سيناء منطقة "أمنية"، ولا باتت الصحراء الغربية مناطق قاحلة ينفي إلي واحاتها 'أعداء النظام' كما كانت الحال في أزمان يعتبرها بعضنا 'سعيدة'، ولم تعد فيها أسوان وما جاورها شرقا وغربا من المناطق 'النائية'، وأصبح الحديث عن مرسي علم والغردقة والبحر الأحمر كله والعين السخنة ومرسي مطروح والساحل الشمالي كله ليس قصة مجموعة من الأجانب الذين يحكون عن مناطق جميلة لا ندري عنها شيئا، وإنما مناطق متاحة وقريبة بفعل شبكة كبيرة من المطارات والمواني والطرق والسكك الحديدية. وببساطة فإن المعادلة الديمغرافية-الجغرافية المصرية تغيرت، فمن عاش علي 3% من مساحة البلاد ليس كمن عاش علي 6%، وماذا تكون الحال لو عرف المصريين كيف يحققون خلال هذا القرن نسب 12% بل و24%؟. كل هذه الأماني ليست بعيدة المنال لأن الرصيد الرابع لمصر يتمثل في أنها ربما أخيرا نجحت في تكوين طبقة وسطي يعتد بها، بمعني آخر إنه قد بات وسط الأسر المصرية الفقيرة جماعة ممن لديهم العلم والثروة التي تكفي لقيادة المجتمع كله نحو عالم أو آخر أفضل حالا. ومن قالوا لنا أنه كان في مصر طبقة وسطي قبل منتصف القرن الماضي لم يشرحوا لنا أبدا كيف يكون الحال كذلك إذا كانت نسبة المتعلمين لم تصل إلي 10% بحال، والعمر المتوقع عند الميلاد لا يزيد عن 47 عاما في مجتمع تفترسه الكوليرا والبلهارسيا، وبه أكثر من أربعة ملايين نسمة من عمال التراحيل. ولذلك لم تكن مصادفة أن سقط النظام المصري في عام 1952 كما تسقط أوراق الخريف عند أول هزة، ولم يخرج الشعب المصري للدفاع عن نظام رغم إنجازاته المختلفة فإنها كانت إنجازات نخبة وأرستقراطية، وليست إنجازات طبقة وسطي تشكل محركا جبارا لنقل المجتمع من حالة إلي أخري. وما بعد الثورة وبعد تأميمها للدولة والمجتمع، فإن طبقتها الوسطي كانت موظفي الحكومة والقطاع العام، وهؤلاء لا يشكلون قلب الطبقة الوسطي في أي بلد متقدم بل إنهم في كثير من الأحيان لعبوا أدوارا محافظة ضد التقدم والتغيير. والآن ونتيجة التغيرات التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية فإن الطبقة الوسطي المصرية تكونت تدريجيا ممن تبقوا من الطبقات الوسطي القديمة، ومع سياسات الإصلاح الاقتصادي المختلفة خلال العشرين عاما الأخيرة تكونت طاقات بشرية لم تكن متاحة في مصر من قبل. وليس مصادفة أن هذه الطاقات ذاتها هي الدافعة للتغيير في مصر من خلال ما تقوم به بالفعل داخل السوق المصرية إنتاجا وأفكارا وتكنولوجيا وما تجربه من خلال استنفار جماعات أحيانا وأفراد أحيانا أخري، وتعبئة مجموعات كبيرة أحيانا ثالثة سواء للمطالبة بالتغيير السياسي في النقابات أو الجمعيات الأهلية أو حتي في مباريات كرة القدم عندما تتجمع بعشرات الألوف هتافا لمصر. الرصيد الخامس ربما يكون هو الأكثر حظا في المناقشة في مصر لأن كل الأرصدة السابقة جعلت النظام السياسي أضيق قدرة علي استيعاب طاقات ومطالب بلد أكثر شبابا وصحة واتصالا بالعالم، وبه طبقة وسطي سريعة النمو وضاغطة بتطلعات كثيرة متوافرة في بلدان العالم الأخري. وربما وذلك اجتهاد خاص، كانت التعديلات الدستورية التي تمت ما بين 2005 و2007 محاولة لاستيعاب عملية التغييرات السريعة الجارية في البلاد، وخاصة من خلال التأكيد علي قاعدة المواطنة، وإعطاء البرلمان القدرة علي تعديل الميزانية، وإطلاق طاقات السوق المصرية من خلال تنقية الدستور من المواد 'الاشتراكية'. ولعلي لا أذيع سرا عندما أقول أن ما جري من نقاش وحوار داخل الحزب الوطني خلال هذه الفترة كان معبرا عن حال مجتمع يتعرض لمتغيرات سريعة تحاول النخبة الحاكمة التعامل معها كما هي العادة بين ثلاثة اتجاهات: الأولي طالبت إما بوضع دستور جديد تماما للبلاد أو بإجراء تعديلات عميقة فيه تتراوح ما بين 80 و120 مادة، والثانية بالمقابل كانت معاكسة ورأت أنه لا يوجد ما يستحق التغيير أكثر من 6 إلي 8 مواد في الدستور كله، والثالثة تراوحت ما بين الاتجاهين وكانت هي التي نجحت في تكوين الأغلبية حول التعديلات التي تمت بالفعل. مثل هذا الحوار والنقاش الذي جري في تلك الفترة يمثل رصيدا غنيا لكل المحاولات والاجتهادات المقبلة للإصلاح السياسي، وبشكل من الأشكال فإن ذلك تمت ترجمته بالفعل إلي مقترحات بعدد من القوانين المهمة التي كان مقدرا حال إصدارها إحداث تغيير جوهري في النظام السياسي وهي: قانون مقاومة الإرهاب الذي يتيح إلغاء حالة الطوارئ، وقانون الانتخابات بالقائمة النسبية الذي يدعم النظام الحزبي ويعطي فرصة أكبر لجميع طوائف الشعب للمساهمة في النظام السياسي، وقانون اللامركزية الذي يعفي مصر من القبضة البيروقراطية الحديدية للقاهرة والسلطة المركزية. هذه القوانين لم يقدر لها الصدور حتي الآن رغم أنها كانت ستتيح طاقة سياسية أكبر لاستيعاب التغيرات الجارية في المجتمع، وربما كان ذلك سببا في عودة جماعة منا داخل وخارج الحزب الوطني الديمقراطي للحديث عن دستور جديد للبلاد. كل ذلك يقودنا إلي عنوان هذا المقال، فما نحن بصدده في مصر ليس التغيير وإنما استمرار التغيير الجاري بالفعل في المجتمع، والقبول بالنتائج السياسية التي تترتب عليه. وعلي سبيل الاجتهاد فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تكون نقطة البداية هي وضع دستور جديد لأنه لا توجد أولا تقاليد تسمح بإجراء تغييرات دستورية عميقة خلال نفس الفترة الرئاسية، وإلا كان ذلك إقلالا من قيمة الدستور، ولأنه ثانيا- وربما كان ذلك هو الأهم- أننا أحزابا وجماعات وأفرادا نحتاج فترة العامين القادمين لإجراء حوار عميق في داخلنا وبيننا حول هذه الخطوة. وبصراحة نحن نحتاج إلي توافق حول نقاط أساسية: علاقة الدين بالدولة، ودور الدولة في الاقتصاد القومي، وحجم ودور رئيس الدولة في النظام السياسي، وعلاقة مركز السلطة السياسية بالمحافظات، ومعني أن تكون مصر دولة مدنية حديثة ومعاصرة. وبينما يجري البحث في كل ذلك خلال العامين القادمين، وخاصة داخل الحزب الوطني الديمقراطي، فإن العملية السياسية داخل البلاد والمتعلقة بالانتخابات البرلمانية لمجلسي الشعب والشوري وحتي الانتخابات الرئاسية لا بد أن تتوافر لها كل الأجواء الصحية التي تكفل المصداقية الكاملة لنتائجها. وفي هذا الشأن فإن لدي اجتهادا آخر قد يخطئ وقد يصيب، ويقوم علي حقيقتين: الأولي، أن النظام السياسي المصري يقوم علي قدر غير قليل من المستقلين سواء من انضموا إلي الحزب الوطني الديمقراطي أو هؤلاء الذين بقوا خارجه مستقلين أو معارضين. والثانية، ضرورة التمييز بين 'الترشيح' و'التصويت' والتأييد لمرشح بعينه. والاجتهاد هنا هو أن يطلق الحزب الوطني الديمقراطي يد أعضائه في مجالس الشعب والشوري والمحافظات للموافقة علي 'ترشيح' من يرونه صالحا للمنافسة علي المنصب الرفيع لرئاسة الجمهورية، ومن ثم يصبح الطريق مفتوحا لمشاركة المستقلين في الانتخابات الرئاسية. وساعتها فإن مرشح الحزب الوطني الديمقراطي سوف يجد أمامه باقة واسعة من ممثلي الأحزاب والمستقلين تكون المنافسة معهم بسياسات الحزب كافية للتجهيز للمرحلة الرئاسية المقبلة. هذا اجتهادنا، ومن جاءنا بأفضل منه قبلناه، والحديث متصل علي أي حال. * نقلاً عن جريدة "الأهرام" المصرية