الأهرام: 3/4/2009 سألت الكثيرين: ماذا تتوقعون للأزمة الاقتصادية العالمية التي تفجرت في منتصف سبتمبر عام2008 فأشاروا جميعا إلي غياب المعلومات وعدم دقتها. وذلك لأن المسئولين عن الأزمة وصناعها من دول العالم الكبري( أمريكا ومنطقة اليورو واليابان والصين والأسواق الآسيوية الناشئة) لم يكشفوا حتي الآن عن أسبابها الكاملة بوضوح, وكل ما طرح فيها مجرد جزئيات.. أما الأزمة فلم تكشف معالمها بعد, وكل ما نراه الآن هو بعض نتائجها وتأثيراتها التي تشير إلي سرعة تفاقمها وانتشارها من أزمة أمريكية الصنع إلي أزمة عالمية مترامية الأطراف والأبعاد, وتحولها من أزمة مالية بحتة إلي أزمة اقتصادية أصابت صميم الاقتصاد, وأضرت بمستويات الإنتاج والمبادلات التجارية والتشغيل. وإذا كانت كل الحكومات بما فيها حكومتنا قد سارعت باتخاذ تدابير لمواجهة تداعيات الأزمة العالمية علي الاقتصاد الوطني فإننا يجب أن نعترف بأن ثمار هذه المبادرات يتعذر الآن قياسها لقصر الفترة الزمنية التي مرت علي مواجهة الأزمة, ولاسيما مع استمرار تعاقب تبعاتها السلبية واستفحالها بمرور الوقت علي نحو يعزز الاتجاهات التشاؤمية بشأن المدي الزمني لانحسارها ومدي فاعلية خطط الإنقاذ والتحفيز التي تتبناها الحكومات في كل الاقتصاديات المتقدمة, وحتي الصاعدة والنامية علي حد سواء لدرء أخطارها, ولكن مراجعات المؤسسات الكبري والدولية وتقديراتها بشأن النمو المتوقع للاقتصاد العالمي والمناطق المختلفة تسودها المخاوف إن لم يكن التشاؤم من اشتداد عواقبها علي الأقل في المدي القريب. ومن منطلق مخاوفنا علي أوضاعنا الاقتصادية نبين للمستهلكين أهمية الحذر وللمستوردين ضرورة أن يتوقفوا عن إغراق أسواقنا بالسلع من كل أنحاء العالم, ويجب أن نتعامل بحرص مع اتساع رقعة الاستيراد من الخارج خاصة للسلع الغذائية والاستهلاكية. نسطيع ان نتحول من الاستيراد الى الانتاج خاصة للغذاء ونسطيع توجية الدعم من الاستهلاك الى الانتاج فالأسعار الرخيصة تغري المستوردين والمستهلكين كما أن تأثيراتها الضارة علي اقتصادنا كبيرة جدا, بل مخيفة علي مستقبل نمو اقتصادنا, وستكون بمثابة هدم لما تحقق في مصر خلال السنوات الأربع الماضية من نمو, وسوف تؤثر أيضا علي قطاعات اقتصادنا التي شهدت في هذه السنوات معدلات نمو مرتفعة ومتسارعة, يجب أن تحتل الأولوية لحماية ما تحقق في مصر من نمو في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات. ............................................................... ويجب توجيه طاقتنا الاستهلاكية, بمستوي معيشتنا وظروفنا الراهنة, إلي استهلاك ما ينتجه اقتصادنا وإمكانياتنا مهما يكن محدودا, وأن تظهر دعوات من كل قطاعات المجتمع للتحذير من تبعات الأزمة ومخاوفها القادمة, إذ مازالت تسود بين الجميع لغة التهوين والتقليل من شأنها, بل إنهم يقارنون بينها وبين أزمة الغذاء العالمية, التي استطعنا تجاوزها بسرعة, ولم تكن طويلة أو ثقيلة الوطء مثل الأزمة الجديدة, كما أنهم يقارنونها أحيانا بالأزمة العالمية القديمة التي وقعت في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر, مع الاختلاف الكامل بين اقتصاد العالم الآن واقتصاد الثلاثينيات, فالأزمة الحالية غريبة الأطوار وليست لها سوابق, ومن ثم فكل الاقتصادات تسير بحذر, وتستدعي المخاوف الكبيرة لدي الجميع مزيدا من الحذر, ولعلنا في مصر في موقع أفضل, فقد ظللنا منذ سنوات طويلة نسعي لأن نكون جزءا من الاقتصاد العالمي, ولكن سياستنا الاقتصادية الحذرة بطبيعتها تفيدنا في هذه اللحظة الراهنة, وقد تحولت في هذا الظرف لتصبح ميزة بعد أن كانت عيبا, لأن الأضرار التي ستصيبنا من الأزمة العالمية مترامية الأبعاد, غائبة الأسباب, وقد لا تؤذينا بالقدر التي تؤذي به الاقتصادات الآسيوية البازغة أو اقتصادات أوروبا الشرقية التي كانت أسرع منا في الاندماج في الاقتصاد العالمي, بل ولا نريد أن نقول إننا محظوظون بهذه الميزة, فهي حقيقية, وتخفف من التأثيرات المخيفة التي تضرب الاقتصادات الكبري وتوابعها, هذا إن لم نقل إن الأزمة العالمية تنطوي في طياتها علي بعض الفرص الإيجابية التي يمكن أن تساعد علي إحداث تغيير في اقتصادنا طويل المدي, فلاشك أنها فرصة ذهبية قد لا تتكرر أمام المصريين لزيادة نصيبهم من الإنتاج, وهو ما يجعلنا ننادي بتغيير منهجنا في مواجهة الأزمة. لقد ظللنا نشكو, لسنوات طويلة, من اعتماد اقتصادنا علي موارد هشة مرتبطة بالاقتصادات العالمية( مثل قناة السويس والسياحة وتحويلات العاملين في الخارج) وحانت لحظة تغيير هيكل الاقتصاد المصري لتحويله إلي اقتصاد إنتاجي حقيقي قادر علي تلبية احتياجات المصريين والأسواق العالمية من منتجات متميزة, يكون اقتصادنا قادرا علي إنتاجها في المرحلة المقبلة, ولن ينجح اقتصادنا إلا بتكاتف مجتمعي تدور في فلكه كل حلقات الاقتصاد, وفي مقدمتهم المستهلكون الذين يجب أن يعلنوا عن هويتهم بوضوح لا لبس فيه, بمعني أن المستهلك المصري عليه الآن أن يفخر بالمنتج المصري وحده, وأن يحرص عليه, بل أن تسري حركة شعبية في الاقتصاد المصري وبين الناس تروج للمنتجات المصرية وتدعو إليها, لأنها طريقنا لاجتياز الأزمة الاقتصادية والحفاظ علي معدلات نمو متناسبة معه, وفي الوقت نفسه تعمل علي توفير وظائف جديدة ومواجهة صريحة للبطالة, وعلي الدولة في هذه اللحظة الحساسة من تطورنا أن تستعيد زمامها, وأن تقوم بتخطيط شامل يلبي الاحتياجات الاستهلاكية من منتجات مصرية خالصة, وإعادة تنشيط الاستثمارات المصرية علي أكتاف قطاع خاص مصري من خلال المنتجات والخدمات التي تحتاجها السوق المصرية, والأسواق العربية المجاورة, والمنتجات التي تتمتع فيها مصر بمزايا نسبية هي قادرة علي إنتاجها بنوعية متميزة, وبتكلفة مناسبة للأسواق العالمية, وتملك منها الكثير, ولكن اقتصادنا في إعادة إلي اكتشاف ذاته وامكاناته الكامنة, اذ إن واردات مصر في تزايد مستمر ففي2005 كانت3040 مليون دولار وفي2006 ارتفعت إلي3441 ثم في2007 وصلت إلي5081 ثم في عام2008 أصبحت6728 مليون دولار, وتستطيع مصر بسياسة إنتاجية جديدة, خلال فترة الأزمة العالمية, تطوير إنتاجها وتغيير أنماط استهلاكها, وهذا يستدعي صراحة مجتمعية وسياسات جادة للتصحيح, خاصة مع إدراك أن الأزمة الراهنة ليست شيئا عابرا سواء في اقتصادنا أو في الاقتصاد العالمي, فهي مستمرة لفترة طويلة جدا أكثر مما يقدرها المتفائلون في عالمنا, وهي من الأزمات المستعصية التي تصيب الاقتصادات في مقتل, ويجب أن نتعلم ونستفيد منها, ونعمل علي إحداث تغيير هيكلي في الاقتصاد المصري, بحيث يسرع في النمو والتطور, وأن نعتمد بدرجة كبيرة علي المستهلكين المحليين ونعيد تطوير هيكلنا الإنتاجي, خاصة الصناعي, وستكون خبراته متاحة عالميا بأسعار مناسبة, وعلي المستثمرين ألا يترددوا, وأن يعتمدوا علي السوق المحلية المصرية والعربية وهي قادرة, في حالة التعاون وإدراك طبيعة الأزمة العالمية واستمراريتها وخطورتها, علي أن تتكيف وتعتمد علي المنتج المحلي. إن سياسة اقتصادية جديدة هدفها زيادة نصيب الفرد من الإنتاج المحلي, وتقوم بتشجيع حكومي والاعتماد علي المستهلكين, كفيلة بتصحيح الاختلالات الجوهرية التي سادت اقتصادنا خلال مرحلة الإصلاح الاقتصادي الماضية, والتي كان من نتائجها زيادة الاستيراد وتآكل صادراتنا, ويجب أن تكون هناك مواجهة ضد استشراء ثقافة الاستهلاك في المجتمع. ............................................................... إن الأزمة العالمية فرصة لتصحيح معادلة للإنتاج والاستهلاك, تكون شبيهة إلي حد كبير بقدرتنا ونجاحاتنا الاقتصادية التي تحققت في السنوات الماضية, في مجالي حفظ قيمة العملة المصرية ومواجهة أزمتي التعثر في المصارف المصرية والشركات, وهي الأزمة التي استحكمت في أداء الاقتصاد المصري منذ منتصف التسعينيات, وحتي السنوات الأولي من الألفية الجديدة, وتم تجاوز النسبة الأكبر من التعثر في السداد, وجدولة ما تبقي من ديون, بل الأكثر من ذلك أننا استفدنا من الأزمتين في تقوية الجهاز المصرفي, وزيادة مناعته عبر زيادة رأسماله ودمج المصارف الصغيرة, وتقوية كياناتها وظهور نوعية متميزة من المصارف العصرية في مصر, أصبحت قادرة علي مواجهة أزمة مالية عالمية ذات أبعاد متغيرة ومتناقضة لم تكشف عن هدفها أو عمقها وتطوراتها المتلاحقة, ويتوقف نجاحنا في مواجهتها علي الإصلاح الاقتصادي الداخلي وقدرتنا المحلية علي اجتياز أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمي, وهو ما يزيد من قدرتنا ويعظم تطلعاتنا علي مواجهة أزمة مالية واقتصادية مازالت تعلن عن أنها أزمة مخيفة, وهي فرصة لمشاركة المجتمع عبر التوعية بالحد من الاستهلاك, بل تقليل الدعم السلعي والتخلص منه, ويجب أن يعود اقتصادنا لتوازنه, فمازالت الأجور في مصر متدنية, وعلينا أن نلجم شطط رجال الأعمال والمنتجين, وأن يفهموا طبيعة الأزمة ونوعياتها بتقليل طموحاتهم المخيفة في الثراء السريع, وأن يزداد لديهم البعد الاجتماعي بأبعاده المختلفة, وأن يتعايشوا مع اقتصاد الأزمة الطويلة, وأن يستفيدوا من التنوع الاقتصادي في مصر, بالتركيز علي التطور في مجال الإنتاج, بل في مجال الخدمات المتنوعة للأسواق العربية والعالمية أيضا, وأن يقدموا خدمات متميزة بأسعار تتناسب مع طبيعة مجتمعنا ومع طبيعة اقتصاد الأزمة. إننا لم نر حتي الآن المنتجين ورجال الأعمال النابهين, الذين يسارعون للاستفادة بتخفيض أسعار المنتجات, وزيادة أعداد العاملين, حتي يستطيعوا أن يخلصوا مجتمعهم من الآثار السلبية للأزمة العالمية. وأن يفتحوا مجالات جديدة بالاستثمار الواسع في مجالات دقيقة ومتطورة لم يعهدها الاقتصاد المصري من قبل, تلبي الاحتياجات المحلية, وتفتح الأسواق الجديدة التي تترقب دخول منتجين جدد بهوية مختلفة, وثقافة إنتاج فرضتها الأزمة العالمية بكل تبعاتها وصعوباتها.. فمن رحم الأزمة يخرج المنتجون الجديد. إن هذه الأزمة تحتاج إلي إدارة تعمل طوال الوقت وتدرس تداعياتها وتتحرك معها باستمرار, بحيث تكون منفصلة عن الإدارة الحكومية, ومتعاونة معها في الوقت نفسه, وتكون عينها وعقلها علي المتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية في الأسواق مباشرة ليس لتلافي الآثار السلبية للأزمة فقط, ولكن أيضا لوضع سياسات اقتصادية جديدة تكرس منهجا يجب أن يعلو شأنه في المرحلة المقبلة, وهو أن الأزمة العالمية فرصة محلية لإعادة مشاركة مصر في الاقتصاد العالمي بقوة متزايدة تتناسب مع تاريخنا وقدرة اقتصادنا الكامنة التي لم تكشف عن نفسها بعد.