الجمهورية 22/3/2009 نكذب ونضل أنفسنا ولا نقول الصدق إن قلنا ان حكم المحكمة الجنائية الدولية كان مفاجأة للكثيرين إذ إن مقدمات ما حدث ومع بداية إعلان تداول ملف دارفور وإعداد مذكرة إدانة للرئيس بشير والكل لديه يقين بأن حكم المحكمة لن يخرج عما جاء بمذكرة التوقيف والذي تحركه في حقيقة الأمر دوافع ونوايا سياسية في المقام الأول بعيدة كل البعد عن معايير العدالة أو تطبيق قواعد القانون الدولي الذي كان ولازال وسيظل معيباً وبعد ما فقد ذلك القدر القليل من المصداقية التي كان يتمتع بها والتي اكتسبها عبر تلك السنوات الطويلة من الممارسة والتي تزيد عن نصف قرن والكل يعلم ان هناك إشكالية في تطبيق القاعدة القانونية علي المستوي الدولي وكيف ان عملية تشكيل المحكمة الدولية وعملية اختيار القضاة وكذلك تحديد طرق التقاضي وطرح القضايا تجعلها مقيدة وتفقد أهم شرط من شروطها وهو الحياد "biase" بل ويجعل تفعيلها وتطبيقها مرتهناً بالتقاء إرادة الدول الكبري الفاعلة في النظام الدولي من جهة وأن عملية التكييف القانوني للوقائع وذلك في حالة قبول التقاضي وقبول عرض الموضوع علي المحكمة الدولية فهي تخضع لا لاعتبارات العدالة التي تفترض في الأصل وجود قاعدة قانونية واضحة ومحددة وتملك قوة تطبيقها والالتزام بها وذلك ما لا يوجد علي المستوي الدولي لأن تفعيل القانون الدولي يتطلب توافر إرادة الدول لعرض هذه القضية علي المحكمة وقبول التحكيم أو أن يقوم مجلس الأمن بعرض القضية علي اعتبار انه المسئول عن حماية السلم والأمن الدوليين وكلنا يعرف ان مجلس الأمن لا يعبر إلا عن مصالح الدول الكبري وكيف أن حق الفيتو قد جعل منه أداة في يد القوي الكبري لتحقيق أهدافها وأهداف الدول الموالية لها وهو ما أصاب المجلس بالعجز والشلل عن الاضطلاع بدوره المنوط به في العلاقات الدولية وفي الأزمات والمواقف التي من شأنها أن تحمل في طياتها تهديداً للسلم والأمن الدوليين وهو ما أدي إلي صدور قرار "الاتحاد من أجل السلام" الذي يخول للجمعية العامة ذلك الحق أي التدخل في الأزمات الدولية التي من شأنها أن تحمل في طياتها تهديداً للسلم والأمن الدوليين.. كل ذلك قد جعل القرارات التي تصدر عن هيئات التحكيم الدولية والمحاكم تفقد الحيادية من جهة كما ان عملية التكييف للأحداث لا تعتمد علي القاعدة القانونية بقدر ما تعتمد علي التكييف السياسي حتي ولو ادعت خلاف ذلك.. في ظل هذه الخلفية لابد وأن ننظر إلي قرار توقيف البشير وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تداعيات ويري البعض من القانونيين بأن الموقف ينطوي علي قدر من الخطورة وهناك جدل قانوني حول كيفية تنفيذ ذلك الحكم وتسليم البشير وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تداعيات إذ انه بصدور الحكم وبعد ذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده "أوكامبو" رئيس المحكمة فإن قرار التوقيف قد أصبح ملزماً وقد طالب السودانيين بضرورة التعاون لتنفيذ ذلك الحكم ويعد البشير كما يري بعض القانونيين فاقداً للشرعية علي الأقل علي المستوي الدولي أو الدول الموقعة علي اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية وان المحكمة يمكن لها أن تطلب من مجلس الأمن تنفيذ ذلك القرار.. ويضع البعض عدة سيناريوهات لما يمكن أن يكون عليه الوضع في السودان والبعض يري ان حركة العدالة والمساواة في السودان وهي قد أعلنت عن ذلك بالفعل وذلك في أعقاب صدور ذلك القرار علي انها سوف تعمل علي ازاحة البشير ومع ذلك فإن البعض يؤكد علي عدم قدرة هذه الحركة إذ سبق وانها قد قامت بذلك التمرد من قبل وقد تمكن الجيش من قمعها خلال ساعات.. وفي الحقيقة فإن حل هذه الأزمة لابد وأن يتم حلها عن الطريق الدبلوماسي وان المدخل إلي ذلك هو تفعيل المادة "16" التي تعطي مجلس الأمن الحق في توقيف أو تأجيل أو تجميد مثل هذه القرارات التي تصدر من المحكمة الجنائية وذلك ما يعطي الفرصة لتحقيق تسوية سياسية أو حل سياسي للأزمة يحقق مصالح جميع الأطراف فالتسوية القانونية في هذه الحالة يعد الأنسب والملائم وهو ما يجب أن يتم من خلال الحشد الدولي وهو ما يتطلب موقفا عربيا موحدا يقف وراء السودان بعيداً عن الشعارات وعن تلك المكلمات وأيضاً الاندفاعات غير المحسوبة التي تضر أكثر مما تنفع . الحقيقة ان الأوضاع في المنطقة قد صارت أكثر حرجية وأكثر قابلية للاشتعال وعمليات الاحتواء لها قد صارت صعبة وذلك بفعل تعقدها وقيمة الأهداف التي تقف ورائها أو الهدف غير المعلن أو الذي تدور حوله هذه المحاولات من خلال مسالك ودروب عديدة بالإضافة إلي تعدد أطراف هذه المواقف سواء علي المستوي الداخلي وأيضاً الاقليمي والدولي التي قد يبدو في ظاهرها كما هو حادث الآن بأنها أزمة داخلية متمثلة في مأساة دارفور الإنسانية وهي في هذه الحالة بمثابة الحق الذي يراد به باطل ولكنها تتجاوز ذلك بكثير وهي تضعنا علي أعتاب المجهول المعلوم في ذات الوقت وتقود السودان إلي الضياع والانفصال ولا يمكن أن ننكر أهمية السودان بالنسبة لمصر شمال وجنوب السودان وان أمن واستقرار السودان يعد من الثوابت في الأمن القومي المصري فهي ليست فقط البوابة الجنوبية والعمق الاستراتيجي ولكنها أيضاً شريان الحياة "نهر النيل" من هنا تأتي وجوبية التحرك المصري والجهد المرتقب من خلال الدبلوماسية بداية من توحيد الصف السوداني وتحقيق السلام جنوب وغرب السودان وعلي وجه التحديد حل مشكلة اقليم دارفور من خلال آلية عربية وأفريقية وبعيداً عن التدخل الخارجي والسعي لعقد مؤتمر دولي يضم مصر والدول العربية والاتحاد الافريقي والإطار المؤسسي الدولي "الأممالمتحدة" والجامعة العربية الإطار المؤسسي الاقليمي والاتحاد الافريقي ان نجاح الدبلوماسية المصرية سوف يقي السودان والمنطقة بل والعالم من تداعيات أقل ما توصف به انها خطيرة ويؤكد في ذات الوقت علي الدور الاقليمي لمصر.