رغبة في الحياة عرس في خيمة حلم بالإعمار والعودة اقترب من غزة، تكاد توقن أنه لا حياة في تلك الوجوه، الأنقاض والركام تهمس في أذن كل زائر: هنا كانوا يعيشون، هنا كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية، هنا كانوا يروحون ويجيئون بهمة وعزم، هنا كانوا يعلّمون أولادهم حب الأرض والحياة، لم يتسببوا بوجودهم هنا بأذى لأي كان، لم يشكلوا خطراً على أحد. في منازلهم المتواضعة التي شهدت ولادتهم وتواترهم جيلاً بعد جيل، يفتقد كل شيء إلا بعض الآمال التي علقت بجدران المنازل المدمرة، الآن خلت المنطقة منهم بل خلت من منازلهم أيضاً إلا ما تبقى من ركام وبضع خيام. جيش المحتل مرّ من هنا، ليحوّل أحياء بأكملها إلى أنقاض وركام متناثر، كنا نعتقد أننا نلتقط صوراً لبيت دمرته آلة الحرب، ولكن مع اقترابنا أكثر وجدنا عائلة خضر التي اختارت الإقامة تحت السقف المنهار، بلغ الاستغراب مبلغه فهم لا يعيشون هنا فقط وإنما يستقبلون ضيوفهم أيضاً! واستطردت جريدة الخليج الإماراتية في تحقيقها : مع فنجان القهوة الذي أعده أحدهم لنا بدأت أم سمير بالحديث قائلة: أسكن هنا أنا وزوجي وأولادي تحت سقف منزلنا، قررنا ألا نترك هذا البيت حتى لو قتلنا جميعا! وإن كان العدو “الإسرائيلي” يهدف إلى ترويعنا فنحن لن نفزع، وإن كان يقصد تهجيرنا فقد سئمنا الهجرة، لقد بنينا هذا المنزل بعرق السنين، لقد شهد زفافنا وفرحتنا بأطفالنا واحداً بعد الآخر ولا يمكن لنا أن نتركه. وحول المخاطر المحتملة من انهيار السقف المتهالك في أي وقت يقول أبو سمير وهو ينفث دخان سيجارته: أعلم أنا وزوجتي أن الوضع خطير، ووجودنا هنا لن يطول بإذن الله، فلا بد لهذا البيت من أن يعاد بناؤه من جديد، خاصة مع كثرة ما سمعنا من وعود كبيرة تحدثت عن إعادة الاعمار، ولقد اخترنا الإقامة هنا لأنها بكل الأحوال أفضل من الإقامة في خيمة في معسكر الإيواء، فأولاً وآخراً يبقى هناك سقف حيث جمعنا الأخشاب ووضعناها بدلاً من الجدران. وأشار أبو سمير بيده إلى بقايا ما كان منزلاً قبل أسابيع قليلة، وقال: هذا منزلنا وتبقى هذه حارتنا التي نعرفها ولا يمكن لنا الانتقال إلى مكان آخر، وها أنت ترى أننا نتمكن من أن نستقبل ضيوفنا ممن حضر من الأهل والجيران ليؤنسنا ويحاول الجميع التخفيف عنا في مصابنا. ويضيف: أنا مهاجر من بلدتي الأصلية، هذا أصبح أمراً واقعاً، لكن لن أفكر في موضوع هجران هذا المكان فهذا لن يحدث أبداً، وليهدم “الإسرائيليون” المنزل على رؤوسنا إن عادوا مرة أخرى. رغبة في الحياة “حسبنا الله ونعم الوكيل”، بهذه العبارة استهلت الحاجة أم وليد كلماتها، فواقعها لا يحتاج إلى وصف أكثر، عائلة ترفع أكفها إلى السماء ليل نهار، داعية الله أن يصلح الأحوال وأن يلتم الشمل الفلسطيني مرة أخرى، وأن يكتب لهم بناء منزل جديد مكان ذلك الذي سحقته أنياب الجرافات خلال الحرب “الإسرائيلية” ضد غزة. وتقول أم وليد: الحمد لله على كل شيء، نحن أحسن حالاً من غيرنا “إللي بيشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته”، ها هم جيراننا قد فقدوا اثنين من أولادهم إلى جانب البيت، أما نحن والحمد لله لم نخسر سوى منزل يمكن بناؤه في أي وقت. المهم أن يبقى أولادي بخير، وصحيح أننا الآن بلا مأوى لكن أملنا في الله لا يزال كبيراً في أن تزول هذه الغمة ونتجمع في منزلنا من جديد. في طرف المكان جلست ريهام الابنة الصغرى لأم وليد، بدا عليها وهي تنظر إلى الخراب الذي أضحى على طول البصر كمن شاخت في عز شبابها، تحمل على ظهرها هموما أكبر منها، تقول بصوت منخفض: بيتنا ليس قريباً من الحدود ولم تكن منطقتنا مسرحاً لأي عمليات اشتباك ومقاومة قبل تلك الحرب، ولكن الواضح أن الاحتلال أراد أن يوصل لنا رسالة، بأنه لن يسمح لنا بالحياة بأي شكل، فهو لا يعاقبنا على أفعالنا إنما يعاقبنا على وجودنا كفلسطينيين. وتضيف: لقد خسرت تحت الركام كتبي الجامعية، وذكريات الطفولة، ولكن ولدت مع كل حجر هدم رغبة أكبر في الحياة، نحن نقيم اليوم بين هذه الأخشاب فوق أنقاض البيت، لا لأننا نحب أن نقيم في منطقة خربة، ولكن لأننا فهمنا الرسالة “الإسرائيلية” جيداً ونرد عليها برسالة مضادة هي أننا لن نترك المكان ولو هدموه مرات ومرات. عرس في خيمة جبلوا أمانيهم بطين بيوتهم، ورفعوا سقف أحلامهم فوق كل جدار كانت ترتفع حجارته، كانت هنا بيوتهم وبقيت هنا اليوم عزيمتهم وصبرهم وتحديهم، هذا أحمد الهرش من سكان مخيم جباليا عمره 22 عاماً، دمر الاحتلال بيته خلال الحرب ضد غزة، هو واحد من أولئك الذين كان لهم نصيب من التحدي ولكن بفلسفته الخاصة، مزج ألمه بمحاولة سعادة، ووجد وسط ركام منزله متسعاً للفرح، فكّر أن يقيم عرسه في خيمة مجاورة لمنزله المدمر شمال قطاع غزة، لم ينتظر كثيراً وذهب إلى عروسه وأبلغها بما يفكر. إيمان عبدالعال عروس كغيرها من الفتيات تبحث عن السعادة، صُدمت في بداية الأمر، وتخطفتها المشاعر بين رغبة في الزواج وفرحتها في بيت كان أكبر أحلامها، تغلبت على هواجسها ووافقت على الإقامة في خيمة بالقرب من منزل عريسها، ربما يعتبرها البعض رومانسية أن تجد في العام 2009 من توافق على مثل هذا الوضع، ولكن إيمان أكدت أنها رغبة في الحياة والتغلب على مصاعبها، فقد تأخر عرسها بسبب الحرب “الإسرائيلية”، وعندما غادرت الدبابات أرض غزة اكتشفت أن منزلها الصغير الذي أسسته مع أحمد قد سحق تحت الجنازير، فلم يكن على حد قولها من خيار آخر، مضيفة: نحن نحب الحياة، وعندما اقترح عليّ أحمد هذه الفكرة أبهرتني في البداية، لكني وبعد تفكير وجدت أنها مناسبة، فكم من الوقت علينا الانتظار حتى نعمر بيت جديد، لقد اخترت أن أكون بجانب زوجي ونعيد بناء المنزل سوياً هذه المرة، فغداً ينجح حوار الفصائل ويبدأ الإعمار وأضع يدي في يد زوجي ونشيّده من جديد، وسألت نفسي لماذا لا نتزوج الآن حتى لو في خيمة؟ لماذا لا نغيظ العدو بفرحتنا واحتفالنا؟ وقد حاول قتلها فينا. وأخذ أحمد طرف الحديث من عروسه وقال: نمضي هنا ساعات المساء، وفي النهار نذهب إلى منزل قريب استأجرته العائلة بالقرب من المكان، فخيمتي لا تحتوي على أكثر من غرفة واحدة، فلقد كانت إقامتي فيها تحدياً كبيراً خاصة أن الخطر “الإسرائيلي” لم يزل يحدق بنا ولم تنته الحرب حتى هذه اللحظة، ولكن جميع من سمع بالفكرة شجعني عليها، وتلقيت دعماً من الناس والجمعيات المختلفة، حيث تم إنشاء الخيمة بوضع خاص يختلف عن بقية الخيام في مخيم الريان للحفاظ على خصوصية الإقامة لعروسين، وساعدت الشخصيات ووسائل الإعلام في لفت الأنظار إلى قصتي التي تمثل معاناة كل تلك الأسر التي تعيش اليوم إما في مخيمات الإيواء أو في المدارس أو منتشرين بين بيوت أهلهم وذويهم. حلم بالإعمار والعودة أكل الأولاد وجبتهم في هواء مملوء بغبار تناثر في المكان وجلست أمهم أمام صنبور المياه تغسل أواني الطعام، تجلس وكأنها اعتادت هذه الجلسة، وكأن هذا هو الوضع الطبيعي سألناها لماذا لا تجد لنفسها مكاناً آخر لتجيب بكل ثقة: هذا بيتي وأين هو المكان الآخر الأفضل من بيتي، أنا اغسل حاجيات الأولاد هنا، فقد دمر البيت بالكامل إلا أن هذا الخزان بقي صالحاً وأنا أقوم بتعبئته بالماء وتنظيف كل ما يلزم في ذات الجلسة. تشير بعينها هناك خيمتنا الجديدة، وهذا بيتي المهدم أنا لا أجلس هناك لأني أقضي أغلب نهاري هنا، فللإقامة في بيتي طعم آخر، قد تقول لي إنه مدمّر أقول لك ولو كان كذلك، ولكن “ما في بعد بيت الواحد يلمه ويحضن على أولاده”، إنها أم خليل التي دمر الاحتلال كل محتويات منزلها، ابتاعت جهاز راديو صغيراً تتابع منه الأخبار التي أصبحت على حد تعبيرها جزءاً من حياتها، وأهم ما تتابعه كواحدة من أصحاب البيوت المدمّرة تلك الأخبار التي تتحدث عن الحوار الوطني وعملية إعادة الإعمار، حلم يخفف عنها وجعها ويزيد الصبر في عروقها، تبشر به أولادها بأن عودتنا إلى بيتنا قريبة. طالما أن مشهد الخراب مستمر فمسلسل الموت لن يتوقف، ربما لا يموت الفلسطينيون قتلاً بالرصاص المصبوب هذه الأيام ولكنهم يموتون قهراً وكمداً وغيظاً على حال وصلوا إليها، يواجهون آلة الحرب الشرسة ويقاومون الواقع المرير مقاومة تجيب عن السؤال الكبير، كيف يمكن للفلسطينيين العيش رغم كل ما أصابهم؟ ببسمة في عيون أطفالهم ودعاء على أكف نسائهم وصبر تعلق في لحى الرجال، ينتظرون التئام الصف الفلسطيني ونجاح مساعي الحوار حتى يبدأ الإعمار ويعودوا إلى منازلهم مرة أخرى.