الجمهورية :12/2/2009 القصة قديمة ومعادة بصورة تبعث علي الملل ومع ذلك فإنها تتكرر بحذافيرها وتفاصيلها العبثية دون أن يأخذ أطرافها العبرة والعظة من "سوابقها" ودروسها المأساوية!! وفصول هذه المسرحية المستهلكة تتكرر من الفصل الأول الذي يلقي فيه "النصاب" شباكه علي فريسته. حتي الفصل الأخير الذي يسدل فيه الستار علي الضحايا الذين يذرفون الدموع علي تحويشة العمر التي أخذها الغراب وطار رغم أنهم رأوا بأعينهم نفس هذه النهاية الحزينة من قبل.. بدل المرة مرات. وهذا بالضبط ما حدث مع شركة الأوراق المالية التي وسعت أنشطتها بإيرادتها المنفردة - لتقوم بوظائف شركة توظيف أموال من الشركات إياها. وفعل ذلك بطريقة "الاستنساخ" التي ليس فيها أي إبداع". فهي قد بدأت عملية النصب والاحتيال بالتلويح بكشوف "بركة" تتجاوز أرباحها - أو فوائدها الشهرية الألف في المائة وهذه نسبة لا تحقق تجارة المخدرات عشر معشارها. وبالطبع فإن المحظوظين الذين تجد أسماؤهم طريقها إلي هذه القوائم "المبروكة". ليسوا إناساً عاديين. مثلي ومثلك وإنما هم من المشاهير من فنانين ورياضيين وسياسيين أسماؤهم تدوي مثل الطبل. والفوائد الخيالية التي يحصل عليها هؤلاء المحظوظون ليست من أجل سواد عيونهم. أو طيبة قلب أو كرم حاتمي من أصحاب الشركة. وانما هي الطعم الذي يتم وضعه في السنارة لاصطياد المدخرين الذين يسيل لعابهم وهم يسمعون من المشاهير المحظوظين الأرقام الخرافية للأرباح التي يحصلون عليها وهم نيام علي أقفيتهم. أي أن الوظيفة الحقيقية لكشوف البركة المشار إليها هي زغللة عيون أصحاب المدخرات الكبيرة والصغيرة من أجل جر أرجلهم إلي الفخ. هذه الحكاية الملتوتة تنطوي علي تكرار ممل لمعادلة النصاب والطماع. وعلي ما يبدو أنها ليست حدوتة مصرية فقط بديل أنها حدثت في بلدان أخري. بل انها حدثت في "وول ستريت" بجلال قدره وعلي نطاق واسع وصل إلي أكثر من 50 مليار دولار استطاع نصاب دولي - مثل "مادوف" أن يقتنصها من مؤسسات مالية كبري ملء السمع والبصر لديها مكاتب استشارية علي أعلي مستوي وخبراء ماليين يتقاضون آلافاً مؤلفة من الدولارات شهرياً. غير أن الطبعة المصرية من هذه الحدوتة البايخة لا يمكن اختزالها في معادلة النصاب والطماع فقط وإنما تعطيها طابعاً خاصاً تشابكات مع السياسة من جانب ومع الدين من جانب آخر. فرغم أن أصحاب الشركة التي تتصدر أنباؤها جلسات النميمة الآن لا يطلقون اللحي ولا يرفعون اللافتات الدينية - مثلما فعل رواد شركات توظيف الأموال الأوائل - فإنهم استفادوا بلا شك من الفتاوي. التي انتشرت في المجتمع في السنوات الأخيرة انتشار النار في الهشيم وأدخلت في روع الناس أن التعاملات مع البنوك "حرام" ولم تقتصر هذه "الفتاوي" أعلي مكاتب الإفتاء القطاع الخاص . حيث يتصدي للفتوي من يشاء دون رقيب أو حسيب ودون مؤهلات أو مسوغات وإنما وصلت أيضاً إلي المؤسسة الرسمية التي دافع بعض أمريكانها عن مثل هذه التنظيرات التي ليست فوق مستوي الجدال. أي أن استشراء هذا التيار الذي يستغل الدين ويسيء تأويله مهد الأرض أمام المغامرين الذين يقومون بتوظيف الأموال علي هذا النحو الملتوي وإيجاد البيئة الصديقة لألاعيبهم غير النظيفة. أما علاقتهم بالسياسة فإنها تمر بدهاليز عجيبة ومتنوعة وعادة ما نجد هؤلاء يبحثون عن مسئول سياسي سابق يضعون اسمه وصورته في صدارة المشهد إمعاناً في تضليل المواطنين وطمأنتهم علي أن أموالهم ستكون في أيد أمينة. وفي الحادثة الأخيرة نجد أن الشركة إياها استغلت رئاسة وزير حالي لها في فترة سابقة كما أن المتهم الرئيسي الذي أصبح اسمه علي كل لسان قام بفبركة صور له مع أكبر المسئولين في الدولة. وفبركة أخبار صحفية تسبغ عليه صفات وصلاحيات سياسية خطيرة. من بينها أنه المستشار الاقتصادي لأكبر المؤسسات الدستورية. والمستشار المالي لبنك البنوك. أي البنك المركزي المصري ذاته. ورغم أن هذه الفبركات هي علي الأرجح مجرد أكاذيب ونصب واحتيال فإن عدم وجود آليات محددة وحاسمة لمنع تعارض المصالح ومنع الزواج بين المال والسلطة أسهم في إيجاد مناخ الريبة الذي يسهل تصديق هذه الأكاذيب. أضف إلي ذلك أنه يبدو أن رقابة هيئة سوق المال علي شركات الأوراق المالية تحتاج إلي تعزيزوتحتاج إلي سد ثغرات استطاع النصابون النفاذ منها والاستيلاء علي إيداعات عدد يزيد أو يقل من المواطنين المصريين. وهذه هي الدروس الأساسية التي يجب أن نتعلمها من هذه المهزلة المتكررة. والتي تشوه صورة الاقتصاد المصري في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي رفع كفاءة هذا الاقتصاد ودعم قدرته علي مواجهة تحديات زلزال الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. فلم يعد منطقياً الاكتفاء بترديد معادلة النصاب والطماع بل يجب أن نري الغابة بكل تعقيداتها وتشابكاتها ولا نتوقف فقط أمامها. وبعبارة أخري فإنه لم يعد كافياً أن ننظر إلي الشجرة بل يجب أن نبصر الغابة بكل تعقيداتها وتشابكاتها حتي لا نعود غداً للاستماع إلي نفس الاسطوانة المشروخة.