قد يختنق الافريقيون من كمّية المساعدات التي تنهال على رؤوسهم عقب كل مؤتمر أو قمّة أو لقاء عالمي مخصّص لبحث أوضاع الدول النامية وكيفيّة مد يد العون لها، بحيث نسمع في كل مرّة انّ كمّية من المال أو شحنة من المواد العينيّة والطبّية في طريقها إليهم.. ولكن السؤال هو: كيف سيتقاسم جميع سكان القارة السمراء ذات الكثافة السكانية العالية هذه المساعدات؟ وهل هذه المساعدات الرسمية أو الخاصة كفيلة بأن تكسر ثالوث المجاعة والفقر والمرض الذي يغرز أظفاره في الدول الافريقية منذ عقود؟ أحدهم يقول: «لم أسمع في حياتي قط عن رجل أصبح ثريا لأنه يحمل بيده وعاء للاستجداء«، ولعلنا هنا نتذكّر القول الذي يقول بعدم إعطاء الفقير سمكة يوميا بل إعطائه صنارة وتعليمه الصيد عوضاً من ذلك.. فما الذي تحتاج إليه افريقيا اليوم: مساعدات إضافية أم استثمارات مكثفة لتعزيز النشاط الاقتصادي وتوفير فرص العمل والنهوض بالوضعين الاجتماعي والصحي؟ «افريقيا هي المكان الأفقر على سطح الأرض«، هكذا تقول الصورة القاتمة التي طُبعت في أذهان دول العالم المتقدم، حيث لا تذكر كلمة افريقيا إلا وذكر معها الجفاف والحروب الأهلية والأمراض الخطيرة أو المجاعة. وعلى مرارة هذه الصورة وسوداويتها، إلا أنها لا تختلف كثيراً عن الواقع الذي تشير إليه الإحصاءات والتقارير الدولية عن المعاناة المستمرّة للشعوب الافريقية التي تسير بأقدام حافية على ثروات دفين، وهي تشدّ أحزمة البؤس على بطونها الخاوية. اليوم، يحاول بعض الشخصيات والجهات الغربية مد يد العون للقارة الافريقية، ولكن الآراء حول هذه المساعدات تنقسم إلى قسمين، الأول يقول بالاكتفاء باستقطاب المعونات والمساعدات للإفريقيين، والثاني يشير إلى ضرورة حشد الاستثمارات وضخ الرساميل لتعزيز سائر البنى والقطاعات في هذه القارة البائسة، أما الرأي الثالث فيؤكد ان المشاريع الاستثمارية بحاجة إلى وقت طويل لتؤتي ثمارها وانه لابد من المساعدات المادية الفورية وفي أسرع وقت ريثما تنضج المشاريع الأخرى. «بونو«.. عرّاب افريقيا الجديربالذكرانّ المساعدات الفاعلة لافريقيا معظمها يصدر عن جهات خاصة وغير دولية، على الرغم من ان كل مجهود خاص يحتاج إلى راعٍ دولي أو إلى دعم مكثف من حكومة الدولة الافريقية المعنية كي يحقق نتائجه المرجوّة. من بين أبرز الشخصيات الشهيرة المنخرطة في «مساعدة افريقيا«، يظهر اسم مغني الروك «بونو« والرجل الأكثر ثراء في العالم «بيل جيتس« والرئيس الأمريكي السابق «بيل كلينتون« ومجموعة من الجمعيات الخاصة والمموّلة من أكثر من جهة. علماً بأن كلا من هؤلاء الاشخاص يعمل لتقديم المساعدة في نطاق مختلف عن الآخر. فمطرب الروك المميّز وقائد فرقة (U2) «بونو«، لا يترك مناسبة إلا ويتحدّث عن قضايا يعتبرها أساسية في افريقيا: كالمجاعة، والفقر، والايدز، والسل، وهو يخوض سلسلة لقاءات على مستوى عالمي لتعزيز المساعدات المقدمة إلى القارة السمراء، ومن بين الشخصيات التي التقاها: الرئيس الأمريكي الحالي «جورج بوش«، والسابق «بيل كلينتون«، والمستشارة الألمانية «انجيلا ميركل«، والبابا «بنديكوت« السادس عشر وغيرهم الكثير. «بونو« الذي حقق ثروة بملايين الدولارات من خلال اغانيه، لم يكتفِ بكونه مغنياً بل أراد أن يكون له دور أكبر في الحياة، ولربما يطمح إلى أن يُلقب ب «عرّاب افريقيا«، فهو يتنقل من مكان إلى اخر ليحرّض الدول الغنية على التبرّع ب7،0 % من دخلها القومي لافريقيا أسوة بالسويد الذي نجح في إقناعها إضافة إلى هولندا واللوكمسبورج. المساعدات العينية.. مأساة على مرّ السنوات الخمسين الماضية، قدمت الدول الصناعية أكثر من 3،2 تريليون دولار للدول الافريقية الفقيرة، ومع ذلك فإن الفقر مازال مستوطناً في مختلف أنحاء افريقيا، وكذلك المجاعة والأمراض الخطرة. وبعض المحللين رأوا ان هذه المساعدات المادية التي توزع عينياً من دون أن توظف في أي قطاع إنتاجي لم تكن سوى زيادة في «مأساة« افريقيا. في أول عقدين بعد حصولهم على الاستقلال، اتضح للإفريقيين ان حكوماتهم عاجزة عن تأمين الخدمات الأساسية التي يحتاجون إليها وقد تجلى ذلك من خلال تدهور البنى التحتية وحال المستشفيات والجامعات وشبكات الانتاج الصناعية. وقد استمر الوضع على ما هو عليه مع فارق جديد هو ان البلدان الافريقية أتخمت بالديون العامة التي انهالت عليها من جهات دولية عدة ظناً منها ان ذلك يساعدها على بدء مسيرتها بعد الاستقلال. اتجاه جديد للمساعدةاليوم، يظهر اتجاه جديد لمساعدة افريقيا وهو بمعظمه من جهات خاصة، ويعبّر «بونو« عن هذا الاتجاه بالقول: «لدى جيلنا فرصة نادرة لتغيير التاريخ، لدينا المال، المعرفة ونعرف الأشخاص الأنسب لمساعدة افريقيا. نستطيع أن نحقق مآربنا، خصوصاً مع وجود أشخاص مثل «بيل جيتس« وغيره من الأبطال«. وهنا لم يذكر «بونو« اسم «بيل جيتس« من عدم، فهذا الرجل الذي يمتلك ثروة كبرى يخصص ما مقداره 5،1 مليار دولار سنوياً لاجراء البحوث اللازمة لمساعدة الدول الافريقية في القطاع الصحي وتوفير الحلول الناجعة للأمراض التي تفتك بهذه القارة. وقد دعا 275 عالماً من أبرز العلماء في العالم ليدخلوا في منافسة حول تطوير أبرز الأدوية وابتكار أفضل المنتجات لمواجهة تحدّيات المستقبل ولحلّ القضايا المتأزمة على الصعد الصحية والزراعية والصناعية في الدول النامية وعلى رأسها الدول الافريقية. ويحاول «جيتس« عن طريق الإنفاق على البحوث العلمية أن يتوصّل إلى أفضل الطرائق للتخفيف من معاناة الأفارقة ولا يستند فقط إلى إعطاء المساعدات العينية والمادية التي لا تصلح إلا فترة قصيرة من الزمن. وللمثال، فإنّ مؤسسة «بيل جيتس« تمنح عدداً كبيراً من العلماء التمويل اللازم لاجراء بحوثهم، ومن بين هؤلاء العالِم الالماني «ستيفن كاب« الذي يعمل حالياً لتطوير طريقة علمية للتخلص من الملاريا عبر مكافحتها وهي في كبد الإنسان. وقد فشل «كاب« في الحصول على التمويل لبحثه من جهات حكومية أو رسمية وكاد مشروعه يذهب هباء لولا تدخل «جيتس« وإعطاؤه 5،13 مليون دولار لاجراء أبحاثه والتأكد من نتائجها التي في حال إذا ما أثبتت نجاحها ستسهم في التخلص من أفتك الأمراض وأكثرها انتشاراً في افريقيا. إلى ذلك، فقد أسس «جيتس« ما يسمّى «قرى الالفية« التي تستقبل مرضى الايدز وتمنحهم العلاج وتحرص على سلامتهم الصحية، كما تستقبل الأشخاص الذين ثبت أنهم يحملون فيروس ال حHIV وكل مَن يرغب المجيء إلى القرى للسكن ولأخذ العلاج، كما ان المؤسسة فتحت غمار الإنتاج في القرى حيث استحدثت المزارع وبرامج التعليم وأسّست بنكاً لحفظ الحبوب وهي تحقق تقدماً مطرداً يترجم في زيادة عدد سكانها وفي تحسّن مستواهم المعيشي، أما المرضى فهناك تقارير دورية تشير إلى تحسّن وضعهم الصحي تدريجيا. الدعم الحكومي ضروري القضية الأبرز لا تقتصر على المساعدات التي تقدمها الجهات الخاصة، فلحكومات الدول الافريقية دور مهم لجهة تأمين الكهرباء والبنى التحتية ووسائل الاتصال وأبسط الخدمات الموجودة في المجتمعات الأخرى خارج افريقيا، كما ان من واجب هذه الحكومات أن ترعى الجهات المسؤولة عن المساعدات وأن تؤمّن لها المساندة الملائمة لكي تكسب ثقة مواطنيها. فضلاً عن ان هذه الجهات الخاصة تحتاج إلى دعم من الدول الكبرى الذي يظهر من خلال مسامحة الدول الافريقية ببعض الديون المترتبة عليها لنادي باريس شرط أن تستثمر قيمة هذه الديون المالية في مشاريع تعليمية وصحية وغيرها في مصلحة الشعوب الافريقية المختلفة. في المحصلة، لابد من الإشارة إلى أن افريقيا تحتاج فعلاً إلى المساعدة، ولكن هذه المساعدة يجب ألا تقتصر على ناحية واحدة مع غضّ النظر عن الضرورات الملحّة الأخرى، لأن ذلك لن يجدي نفعاً وسيبدو كما لو أن أحدهم يحاول إضافة مياه الشفة إلى مياه البحر لتحليتها.