المصري اليوم: 13/10/2008 لم تعرف «وديان» شيئاً عن حقيقة مرضها، كل ما قالته لها والدتها التي يمرح الشقاء سعيداً في ملامح وجهها إنها «عيانة»، حتي عندما فقدت نظرها وهي لم تتجاوز بعد التاسعة من العمر، وباتت مضطرة إلي تخيل شكل الأشياء والتمييز فيما بينها بالصوت، قالوا لها إنها «عيانة»، ولأنها أدركت من خلال تجاربها مع المرض طوال سنواتها التسع أن «العيان بياخد دوا ويخف»، تعيش متمسكة بأمل، لا تعتقد أبداً أنه مستحيل. فجأة فقدت البصر، ونقلها أبوها، الذي يعمل سائقاً ب«اليومية»، من مدرستها المحببة في «تلا» بالمنوفية إلي مدرسة للمكفوفين في شبين الكوم، فجأة أيضاً فقدت صورة الأصدقاء وصوتهم، باعدت إعاقة بصرها بينها وبين «صاحباتها» في مدرسة تلا. لم تنل أمها قسطاً وافراً من التعليم ربما تفك الخط بالكاد لكنها قاومت أحزانها، وحاولت أن تعلم فتاتها الصغيرة أن تعيش الحياة دون عينين، أن تسمع الأشياء ولا تبصرها، أن تسمع التليفزيون.. وتسمع المسلسل، وتتولي بخيالها رسم الصور كما تشاء. لم يكف أبوها عن نضاله في الحياة، ربما منحته ظروف طفلته دافعاً أشد قوة لمواصلة النضال ومضاعفته، قرر أن يكون سند نفسه، وأن يستقوي في وجه المحنة، حتي تجد صغيرته ظهراً صلباً تستند إليه في حياتها القاسية، لكن البصر كما ضاع فجأة.. جاء السرطان فجأة. سقطت الطفلة في شبين الكوم، وهناك عرف الأب السبب، وعرف أن ظهره وحده لم يعد يكفي لتستند إليه الصغيرة، وأن استقواءه علي المحن تحول إلي معركة بلا أمل مع طواحين الهواء. لكن الأقدار.. بينما كانت تعطي للسرطان ضوءاً أخضر للمرور في جسد الطفلة الصغيرة، كانت تجهز الظهر والسند للطفلة، وترسم خيوط أمل أمام حالة الاختبار، التي وضعت فيها والديها المحزونين، كان السرطان يضع أول موطئ قدم في الجسد الصغير، وكان مستشفي «57357» يفتح أول باب لاستقبال الأطفال المرضي بالسرطان. يومها لم يصدق أبوها حين أخبره طبيب طفلته في شبين الكوم بأمر المستشفي، أنه يمكن أن يجد لصغيرته فيه مكاناً دون «توصية أو واسطة».. لم يصدق أنه لن يدفع مليماً، ولن يضطر ل«رشوة» الممرضات وأفراد الأمن، ولن يكون مجبراً علي زيارة الطبيب في عيادته الخاصة، حتي يساعده في دخول المستشفي ويهتم بطفلته. يومها، ذهب والتوجس يسيطر عليه، لذلك استجدي جارته أن تسمح له «بقبض الجمعية» قبل موعده، حتي يذهب إلي المستشفي متسلحاً ب«قرشين»، وأوصي ابن خاله، الذي يعمل في شركة عضو مجلس شعب، أن يحضر له «كارت توصية» من سيادة النائب إلي مدير المستشفي. الآن، ترقد «وديان» في سريرها بالمستشفي، وتغلق عليها وأمها باب غرفتهما المستقلة، لم يستخدم الأب «كارت التوصية» ولا «فلوس الجمعية» طوال 13 شهراً، هي مدة علاج طفلته في المستشفي حتي الآن، والأهم أنه يأتي لزيارة ابنته التي ترافقها أمها مرة كل يومين، مطمئناً إلي أنهما «في أيد أمينة» ترعاهما إدارة مستشفي، لا تسمح لمريض أن يحتاج شيئاً، ولا تترك شيئاً للمصادفة. بينما ترقد «وديان» في سريرها، تتابع دراستها في فصول أعدت خصيصاً، حتي لا ينقطع الأطفال عن دراستهم، وتذاكر دروسها بمعاونة المتطوعين، وتختار طعامها وألعابها، ويشرف علي علاجها فريق متكامل، مكون من استشاري ونائب بدرجة مدرس مساعد وصيدلي وممرضة، لا تسمح إدارة المستشفي لنفسها أن تمن علي أحد بما تفعل.. هي تعلم أنها تدير مؤسسة تتنفس وتعيش علي دعم الناس وتبرعاتهم، بما يجعل لكل مريض نصيباً فيها، لذلك لا تتعجب حين تجد أم «وديان» تهبط إلي الدور الأرضي، لتضع تبرعاً كان قد جاءها من أحد الزوار في صندوق المستشفي، وحين تسألها ترد: «كنت محتاجة الفلوس علشان أصرف علي علاج بنتي .. والمستشفي مش مخليانا محتاجين حاجة تبقي هيا أولي.. علشان بنتي وغيرها». هناك في مستشفي «57357»، عثر والد «وديان» أخيراً علي مكان في مصر، الناس فيه سواسية، وأدرك أن ما يسمعه عن نصوص الدستور التي تؤكد المساواة بين المصريين دون تفرقة بسبب لون أو جنس أو عقيدة، ودون تمييز بسبب النفوذ أو حسابات البنوك يمكن أن تكون لها ترجمة حقيقية علي أرض الواقع، وأنها ليست نصوصاً من خيال، تعرف علي الطبيب «الإنسان»، الذي كان يشاهده في الأفلام القديمة، طبيب لا يكف عن التعلم، ولا يمل من خدمة الناس، في الوقت الذي تعصمه المؤسسة إلي حد ما من الخضوع ل«آليات السوق». في مستشفي «57357» ترقد «وديان» يداعبها أمل بالشفاء، «العمي» بالنسبة لها مرض «زي السخونية».. والسرطان «وجع بيوقع الشعر» ولا يفارقها إيمان بريء بأنها «بكرة تخف وترجع تشوف من تاني».. لكن اليوم الذي تنتظره «وديان» من الممكن أن يكون حلماً مستحيلاً، لو تدهور المستشفي أو توقف.. فلا تسمحوا للغد الذي تنتظره «وديان» ألا يجيء.