يا ليتهم يفهمون معني الزكاة.. في أن تدفع حق الله من النعم التي وهبها لك، سواء كانت مالاً.. أو ذهباً.. فالزكاة ليست ضريبة من ضرائب يوسف غالي، لكن الذي شرعها هو الخالق سبحانه وتعالي علي اعتبار أنها ركن من أركان الإسلام الخمسة.. أي أنها أمر لك إن كنت مسلماً تدفعه لمن يستحقه.. المهم ألا تتباهي وأن تدفع حق الله.. حذار من المنظرة والفشخرة، فالثواب والأجر لن تحصل عليهما إلا إذا كان هذا العمل سراً، لكن أن تصبح الزكاة علانية وتكسر فقيراً في العلن وأنت تمد يدك إليه، فعقابك عند الله كبير، لأن الله لا يجزي إلا المحسنين.. والإحسان ليس بالفشخرة أو التظاهر.. فقد تكون متوسط الحال ولست ثرياً ومع ذلك تدفع عن نفسك وبيتك وأولادك زكاة المال وأنت تعرف جيداً أن لك أجراً علي هذا وثواباً من الله.. لأن المحسنين عند ربهم لا يتساوون بثرواتهم ولكن يتساوون بعطائهم حسب قدراتهم علي أن يكون العطاء خارجاً بنية الإحسان وليس بنية التظاهر. فالمشهد الذي رأيته من أيام، وعلي وجه التحديد في مدينة المهندسين، بجوار جامع محمود، لا أستطيع أن أصفه إلا بالمشهد المهين.. فقد احتشدت كتل بشرية علي أبواب إحدي السفارات العربية بعد أن أذيع في الأوساط الشعبية أن سفير إحدي الدول العربية يقوم بتوزيع زكاة رمضان ويمنح كل فقير 200 جنيه، ولك أن تتخيل حجم البشر الذي تدفق إلي هناك وأحاط بأسوار السفارة فاضطر رجال أمن السفارة إلي فتح خراطيم المياه عليهم وكأنهم يطلقون المياه بقوة وغزارة علي كتل ملتهبة من النيران.. وهي كتل بشرية لمئات الضعفاء.. منهم من كان يحمل أطفاله.. ومنهم من كان يجر في يديه أباً عجوزاً أو أماً عجوزاً.. ولم يجد هؤلاء من يغطي رؤوسهم أو أجسادهم من قوة المياه، فاستسلموا لقدرهم.. وفي النهاية عادوا إلي بيوتهم بخفي حنين.. يعني بدون ولا مليم! السؤال: لماذا نسكت علي مثل هذه المهزلة؟.. إن هذا المشهد يتكرر كثيراً وأمام بيوت وقصور لأشخاص تجردت قلوبهم من الرحمة، رغم أنهم يعتقدون أنهم من المحسنين لمجرد أنهم يشرعون في مساعدة هؤلاء الضعفاء علناً وأمام كل العيون.. يجدون متعتهم عندما تصطف الكتل البشرية علي أبوابهم بالساعات، ويظنون أن هذا المشهد يعطي انطباعاً للشارع المصري بأنهم من المحسنين الذين جاء ذكرهم في كتاب الله. وهنا بدأت أسأل نفسي: لماذا لا نعطي زكاتنا إلي فضيلة المفتي علي اعتبار أنه المؤتمن علي توصيلها سراً لمستحقيها.. فإذا كان أصحاب المال والقادرون.. جادين فعلاً في توصيل زكاتهم لمن يستحقها فعليهم بالمفتي فقد خصص مشروعين: أحدهما للاستثمار الخيري.. والثاني لزكاة المال وهذان المشروعان لإدخال الفرحة إلي قلوب الفقراء والمحتاجين. لقد تابعت باهتمام ما يقوم به فضيلة الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية.. فالرجل خرج علينا منذ عامين بفكرة إنشاء مؤسسة خيرية سماها «مصر الخير»، ولأول مرة تساند أجهزة الإعلام مشروعاً خيرياً، ونحمد الله أنه ليس تابعاً للحكومة.. لأنه لو كان تابعاً لها لدخلت التبرعات في «عب» الحكومة وأنفقتها مكافآت علي المحاسيب والقرايب.. صحيح أن فكرة هذا المشروع بدأت بتأمين علاج المواطن الذي لا يجد دواءه، أو مصاريف عملية جراحية لإنقاذه فقد اكتشف فضيلته تدهور ميزانية العلاج في مصر وأصبح العلاج لمن يملك مالاً.. من هنا جاءت دعوته في تبني علاج الفقراء.. ووجود هذا الصندوق الخيري لا يمنع أن يكون بجانبه الزكاة.. لذلك يحلم الدكتور علي جمعة بأن يصبح لمؤسسة «مصر الخير» فروع تغطي جميع محافظات الجمهورية، ويحلم بأن يكون لديها «داتا» بأسماء الفقراء في مصر علي الأقل ليضمن وصول المساعدات إليهم، حفاظاً علي كرامتهم وعدم امتهانهم في طوابير علي أبواب الذين يتلذذون ويستمتعون بوجود هذه الطوابير علي أبوابهم من أجل لفافة لحمة.. أو ورقة بنكنوت نقدية. لقد سمعت أن هذه المؤسسة سوف تتولي أيضاً تعميم تجربة «بنوك الطعام» حتي تضمن ألا ينام فقير بدون أكل.. وأنا هنا أتمني أن يمتد عمل هذه المؤسسة إلي إقامة «حمامات» شعبية في الأحياء.. وتوفير مياه الاستحمام والصابون حتي تضمن أن يستحم الفقراء الذين لا يجدون المياه في بيوتهم.. إن رائحة العرق تفوح بين معظم سكان المناطق الشعبية وبين الباعة.. ومن يزر حي «الدويقة» يشم رائحة الأهالي قبل أن يشم رائحة الأشلاء والجثث.. ولأن الأهالي ينامون في الخيام بعد الكارثة فهم لا يجدون حمامات يغسلون فيها أجسامهم. فضيلة المفتي يعرف أكثر من هذا، ويعرف أن السعودية إحدي الدول الغنية فرضت علي المؤسسات والشركات نسبة من أرباحها لمؤسسة «زكاة المال».. فلماذا لا نكون مثلهم، ويصبح تمويل هذا الصندوق من أرباح المؤسسات والشركات التي تحقق الملايين علي أرض مصر.. إن التكافل الاجتماعي واجب.. وهو دَين في رقبة الحاكم لذلك أطالبه بأن يؤيد هذا الاقتراح علي الأقل ليرفع غضب الفقراء عنه.