الإيدز هو العنوان الرحيم الذي حملته جولة الرئيس الأمريكي جورج بوش في إفريقيا الأسبوع الماضي, وإفريقيا نفسها هي الوجه الإنساني النبيل الوحيد في أجندة السياسة الخارجية المتوحشة للمحافظين الجدد في واشنطن. واذا قدر لبوش أن يجد لنفسه مكانا متواضعا في التاريخ بعد كل ما ارتكب من أخطاء, فلن يكون إلا عبر بوابة القارة السمراء نقطة الضوء الوحيدة والحقيقية في ميراثه السياسي المخضب بالدماء. من الصعب العثور علي نقاط إيجابية في سياسات بوش الداخلية أو الخارجية, لكن كما تقول لاوري جاريت الباحثة في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي, فإنه لايمكن إنكار أن خطة بوش لمكافحة الإيدز في إفريقيا والتي طلب من الكونجرس مضاعفة حجمها الي30 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة هذه الخطة هي أكبر انجازاته التاريخية, وهي استثمار خيالي فذ في التاريخ الإنساني. بوش الذي ذهب الي القارة الإفريقية تاركا خلفه اخفاقات وأزمات متفاقمة بفعل سياساته في العراق وأفغانستان والبلقان والشرق الأوسط والخليج وكوريا الشمالية يبدو أنه كان واعيا الي أنه لم يعد لديه رصيد قبل أن يترك منصبه بعد أشهر سوي الإنجاز الإفريقي, والغريب أن بوش بسجله الحافل بالمغالطات وإخفاء الحقائق والتلاعب بها نطق صدقا, عندما تحدث عن الأخطاء العالمية التاريخية في التعامل مع إفريقيا. وحدد موضع الداء بدقة قائلا: إن دول العالم تواصل التعامل مع إفريقيا إما باعتبارها قضية إعانات خيرية أو فرصة لاستغلال الثروات والحصول عليها, والي هنا يبدو بوش صادقا, غير أنه يضيف أن الولاياتالمتحدة ترفض التوجهين في التعامل مع القارة, وهنا يبدأ الاختلاف معه, فمن حيث المساعدات ظلت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القارة محصورة طوال السنوات الماضية في تقديم الدعم المادي والفني لمواجهة الأمراض والأزمات الإنسانية, ولا يوجد تعامل تجاري حقيقي ملموس بين الجانبين, ولا يزيد التبادل التجاري الأمريكي مع كل دول القارة علي2% فقط من التجارة الأمريكية الخارجية, ولذلك اتجهت تلك البلدان سياسيا واقتصاديا الي الشرق والصين. علي نحو خاص التي يبلغ حجم تجارتها واستثماراتها في إفريقيا نحو تريليون دولار, هذه الحقيقة تسهم في انحسار جانب من البريق الذي يحيط بالمساعدات الأمريكية السخية لمكافحة الإيدز, ليس فقط لأن رقم الثلاثين مليار دولار الذي يعد به بوش يبدو ضئيلا أمام المساهمة الصينية في دعم اقتصاد القارة, ولكن أيضا لأن هناك تساؤلات جادة حول أيهما الأهم للأفارقة المعونات أم التجارة والتنمية. يوري موسيفيني رئيس أوغندا لديه إجابة معلنة يلخصها بقوله: إن علي الدول الغربية الغنية التوقف عن اضاعة وقت القارة في تقديم وعود بمعونات, وعليها بدلا من ذلك أن تفتح أسواقها أمام المنتجات الإفريقية, وهذه الدول كما يتهمها موسيفيني, وهو ما تجنبه الصينيون بذكاء, تعطي إفريقيا معونات بيد وتأخذ منها أموالها باليد الأخري من خلال الدعم الذي توفره لمزارعيها والرسوم الجمركية التي تفرضها علي وارداتها بما فيها القادمة من إفريقيا, ويترجم وليام ريد رئيس مؤسسة الصحافة السوداء الأمريكية هذا المعني في صورة معادلة بسيطة تقول إن زيادة حصة إفريقيا من التجارة العالمية بنسبة1% فقط يعني أنها ستحصل علي خمسة أضعاف ما تحصل عليه من معونات. أما عن حديث بوش عن استغلال ثروات القارة, فلايمكن إبراء ذمة بلاده مقدما من هذه التهمة التي حصرها في الآخرين, وعلي الرغم من أنه حرص علي تبديد المخاوف الإفريقية ببدء حملة أمريكية لعسكرة القارة, نافيا وجود نية لإقامة قواعد عسكرية جديدة في بلدانها أو نقل مقر قيادة العمليات العسكرية الإفريقية افريكوم من ألمانيا الي إفريقيا, إلا أن المصالح الاستراتيجية الأمريكية بما فيها الاقتصادية قد تستدعي التدخل العسكري المباشر في أي وقت وهو احتمال أكده قرار بوش في العام الماضي بإنشاء افريكوم لتكون قيادة عسكرية مستقلة للعمليات في افريقيا خصيصا, وهذه المصالح تتركز في ثلاثة أهداف أساسية, أولها مكافحة الإرهاب واستئصال أي بؤر إرهابية قائمة أو محتملة, وثانيها احتواء النفوذ الصيني المتمدد اقتصاديا وسياسيا في القارة, وأخيرا تأمين موارد الطاقة أي البترول, وهو محور الاهتمام الأمريكي الحقيقي والذي سيتضاعف خلال السنوات المقبلة. لم يتحدث بوش خلال جولته عن الطاقة ولكن رائحة البترول واضحة منذ سنوات في السياسة الخارجية الأمريكية صوب إفريقيا, وهذا ما تقوله الدوائر الرسمية الأمريكية التي تكشف عما يعتبره البعض مفاجأة وهو أن مساهمة إفريقيا في توفير احتياجات السوق الأمريكية من النفط أصبحت تساوي إن لم تتجاوز مساهمة الشرق الأوسط, واحصاءات إدارة الطاقة الأمريكية تؤكد هذا, ففي أوائل العام الماضي تجاوزت واردات البترول الأمريكية من دول القارة, جنوب الصحراء, مثيلتها من الواردات القادمة من الشرق الأوسط, حيث استوردت الولاياتالمتحدة1,736 مليون برميل يوميا من إفريقيا في فبراير2007 معظمها من نيجيريا وأنجولا, بالإضافة الي كميات من تشاد والكونجو برازافيل وغينيا الاستوائية والجابون, وهذه الواردات كانت أكثر قليلا من وارداتها من السعودية والكويت, بالإضافة الي الكمية الضئيلة التي تستوردها من اليمن, ومؤشر الواردات الأمريكية يوضح أن أهمية إفريقيا كمصدر للطاقة تتعاظم باطراد, بينما تتراجع أهمية الشرق الأوسط الذي تعهد بوش في خطاب حالة الاتحاد عام2006, بأن يقلص الواردات البترولية منه بنسبة75% بحلول2025. والأرقام الأمريكية تقول إن تلك الخطة جارية بالفعل وأن إفريقيا أحد البدائل الأساسية, ففي عام2000 كانت الولاياتالمتحدة تستورد2,438 مليون برميل يوميا من الشرق الأوسط أي26% من وارداتها, بينما تستورد1,374 مليون برميل يوميا من إفريقيا, جنوب الصحراء بنسبة15,1% من وارداتها, ولكن بحلول عام2005 اختلف الوضع تماما حيث تراجع حجم الواردات البترولية الأمريكية من الشرق الأوسط الي22% من إجمالي وارداتها, بينما قفزت وارداتها من إفريقيا الي18,4% من إجمالي وارداتها البترولية, وتشير الأرقام كذلك الي أن المساهمة الإفريقية تبلغ حاليا22% من الواردات الأمريكية من البترول, بينما يقدر مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكي أن الواردات من إفريقيا لن تقل عن25% من اجمالي الواردات البترولية الأمريكية عام2015. النفط إذن وليس الإيدز فقط هو الذي أتي ببوش الي القارة, وهذا يبعث علي القلق, فتاريخ الشرق الأوسط يعلمنا أنه عندما يجتمع البترول والأمريكيون في مكان فلابد أن تشتعل الحرائق