الاهرام 17/7/2008 الأزمة الدينية الإسلامية المسيحية الممتدة في مصر, شكلت أحد الأعطاب البنائية في عمليات تشكيل الدولة القومية, والأمة المصرية, والصفوة السياسية الحاكمة وتشكيلاتها منذ نهاية عقد الأربعينيات وإلي اللحظة الراهنة, وأحد أبرز وجوهها الشائهة هو اللجوء إلي مفاهيم وأفكار وآليات ما قبل وما دون الدولة لمحاولة إيجاد حلول وقتية, والأخطر أن من يقوم بذلك بعض أجهزة الدولة ومسئوليها دون وعي بخطورة الآليات التقليدية, لأنساق ما دون الدولة علي هيبتها, وقانونها وآلياته ووظائفه الردعية والمنعية. أن ظاهرة اللجوء إلي المجالس العرفية في مناطق مختلفة لحل مشاكل عديدة خارج الأطار القضائية, هي آلية مضادة لقانون الدولة, وتشكل نقضا وقطعا مع تقاليد ومفاهيم دولة القانون, والأخطر أنها تمثل انقطاع في ذاكرة الدولة المصرية الحديثة, وثقافتها الحداثوية, ومن ثم مع تاريخها الذي تمثل في إحلال الهندسة القانونية والمؤسسية وشبكاتها وتطبيقها علي العلاقات الاجتماعية والقانونية والاقتصادية. ومن ثم يشكل اللجوء إلي المجالس العرفية, أو مجالس العرب المستمدة من القوانين التقليدية للأعراف,والديات, إضعافا لقانون الدولة وقضائها, وخاصة عندما يلجأ الأمن ورجال الدين والمحافظيون, وبعض أعضاء مجلس الوزراء لهذه الآلية, مما يشكل خطورة علي الدولة ذاتها وقانونها. من المعروف أن تجربتنا القومية المصرية التاريخية تمثلت في أن أحد أبرز عمليات التحديث السياسي والقانوني المصرية تمثلت في التحول من أنظمة وقوانين التقاليد والأعراف والطوائف الحرفية والملل والنحل الدينية والمذهبية إلي أنظمة قانونية وضعية تم استعارتها من التجارب القانونية اللاتينية الفرنسية, والإيطالية والبلجيكية وأقلمتها مع انساق القيم والتقاليد الوطنية, سواء من خلال استراتيجيات الاستعارة والدمج في إنتاج التشريعات الأساسية وتطويعها لتتلاءم مع المؤسسات والعلاقات الاجتماعية, وعملية بناء هياكل الدولة الحديثة, ومن ناحية أخري هناك الدور البارز الذي لعبته الجماعة القانونية المصرية من المشرعين, والقضاة, والفقه, والمحامين في إحداث التكامل بين القيم والقواعد القانونية الحديثة, وبين التركيبة الاجتماعية والثقافية وأنماط السلوك الاجتماعي السائدة في بلادنا سواء علي المستوي المديني أو الريفي, أو في بعض المناطق الصحراوية, وذلك علي الرغم من أن بعضها ظل خاضعا في الغالب للقانون العرفي. أدت الأنظمة القانونية الحداثوية إلي دعم عمليات بناء الدولة القومية وأجهزتها المدنية والأمنية والإيديولوجية, ومن ناحية أخري ساعدت علي إضعاف وكسر التضامنات والعلاقات الأولية, وتحولت علاقة المصري بالدولة من الروابط الأولية, وهياكل القوة التقليدية الرابطة الدينية والمذهبية, والعائلة الممتدة والعشيرة والقبيلة والعصبيات المحلية.. إلخ إلي علاقة مباشرة, ودونما وسائط. والأحري لم تعد ثمة وساطات سياسية أو اجتماعية أو دينية بين المصري وبين دولته وأجهزتها علي اختلافها, فالمسجد والكنيسة والمعبد للصلاة, وأداء طقوس الزواج أو الموت....إلخ. ظلت بعض الظواهر التقليدية والعرفية تناور مع ظواهر وهندسات الحداثة السياسية والتمثيلية والقانونية, من أبرزها, ظواهر المكانة المتمثلة في دور بعض القبائل والعائلات الممتدة والعشائر والمؤسسات الدينية الأرثوذكسية تستخدمهم السلطة السياسية لأداء بعض الوظائف السياسية أو الأمنية عندما تحتاج إلي توظيف سياسي لأدوارهما التقليدية. وتقوم الجماعات الأولية من ناحية أخري باستخدام أجهزة الدولة الحديثة في توظيفهما للبرلمانات, والحكم المحلي في إعادة إنتاج مواقع القوة التقليدية, من خلال التشكيلات البرلمانية, أو نظام العمد, أو من خلال قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين, أو غير المسلمين من الأقباط واليهود , التي شكلت ولا تزال أداة رئيسية في إنتاج نظام الأسرة ذي الأصل والمرجع الديني والمذهبي الإسلامي والمسيحي واليهودي ولاسيما قبل الثورة في مصر, وذلك علي الرغم من تحولهما من نظام القانون الديني إلي القانون الوضعي من حيث الصياغة والتكنيك والشكل القانوني. إن استمرارية القانون العرفي لدي بعض التركيبات البدوية في سيناء وأولاد علي, وسيوة, مع قانون الدولة ونظامها القضائي شكلا ولا يزال أحد مصادر الضعف البنيوي في بناء الدولة الحديثة وفاعلية مبدأ سيادة القانون. الأخطر أن التوترات والصراعات امتدت إلي مناطق أخري في صعيد مصر في قضايا الديات في جرائم الثأر التي تنتهي بالقتل والضرب والحرق... إلخ! وبعض المناطق البدوية وعلي هوامش الفيوم. من أبرز تجليات النكوص عن قانون الدولة وقضائها الحديث برز منذ عقود عديدة ظاهرة لجوء بعض رجال السياسة, والحزب الحاكم وبعض المعارضين , في تعاون وتنافس مع بعضهما بعضا في الخروج السافر علي قانون الدولة المصرية الحديثة, باللجوء إلي الأنظمة العرفية ومجالس العرفية دونما محاسبة سياسية أو قانونية لهؤلاء الخوارج علي الدولة وقانونها وبعضهم من رجالها. لجأ الخوارج علي قانون الدولة بعض المحافظين, ورجال أمن, وموظفين ورجال دين رسميين تحت سمع, وبصر رؤساء وزراء, ووزراء, إلي المجالس العرفية وإشاعة سياسة تقبيل اللحي والوجنات بين بعض رجال الدين المسلمين والأقباط الأرثوذكس علي وجه التحديد, في بعض مشاكل التوتر الديني الإسلامي المسيحي, والتعصب والكراهية المتبادلة التي ينشرها بعض الغلاة والمتزمتين من رجال الدين المتعصبين, واتباعهم من العوام, وبعض غلاة الخواص. ذاق بعض رجال الدين الإسلاميين والأقباط الأرثوذكس طعم وحلاوة اللجوء إليهم, كسلطة وحكام للعوام والغلاة من أتباعهم الذين عاشوا في ظل نمط من التعليم, والوعظ الديني التقليدي والمتزمت والطقوسي, والذي يعتمد علي التلقين والحفظ, ليس للمقدس فقط, وإنما إلي منظومة من التأويلات والآراء اللاهوتية والفقهية التي كانت جزءا من تاريخ السلطة أو المؤسسة. تاريخ من تلقين وإعادة إنتاج تصورات تتنافي مع الوحدة القومية للأمة المصرية, بعض رجال الدين وظفوا مواقعهم في بناء مكانة وسلطة تعتمد علي محاولة احتكار بعضهم' معرفتهم' بالعلوم الدينية, وتاريخ كل دين وعقائده وطقوسه والقصص الديني, في بناء سلطة لهم علي الاتباع, أو علي الأقل ممارسة تأثير واسع النطاق انطلاقا من الجامع والكنيسة إلي نطاقات أوسع من الشهرة والذيوع والمكانة. بعض هؤلاء ركزوا علي إبراز التمايز بين دينهم ومذهبهم عن الأديان والمذاهب الأخري, ويروجون للحدود والأفضليات والمزايا لأديانهم ومذاهبهم إزاء الآخرين وعقائدهم.. إلخ. البعض من الغلاة يركز علي الدعوة والتبشير من خلال خطاب المزايا العقائدية والمذهبية إزاء الأديان والمذاهب الأخري, ومن أسف يلجأ بعضهم علنا, أو خلسة واضمارا إلي خطاب' النقد' أو' القدح' الديني والمذهبي, للترويج لصوابية انتمائه الذي يبشر ويدعو إليه. هذا النمط من الخطابات المدحية والقدحية التي تنطوي علي التمييز إزاء الآخرين في الوطن والأمة أيا كان انتماؤهم الديني والمذهبي بعضهما مرجعه الحماسة الزائدة أو الغيرة والأخطر يكشف عن بنية نفسية وذهنية تعصبية بامتياز. الدولة وأجهزتها والسلطة السياسية الحاكمة, وبعض رجال السياسة والفكر والمثقفين ورجال الإعلام والصحافة, تعايشت مع هذا النمط, وناورت, ولم تحاول أن تواجه الشروخ في بناء الأمة المصرية ووحدتها وعمليات التكسير العمدي أو غير المقصود للمواريث القومية من خلال تسييس الخطاب الديني من قبل المؤسسات الدينية الإسلامية والقبطية الأرثوذكسية , ودونما حسم بالتشريع الذي يحظر هذا النمط من الأقوال والأفعال, وتطبيق القانون علي المخالفين أيا كانت مكانتهم الدينية الإسلامية أو في الإطار الأكليروس القبطي الأرثوذكسي, أو الكاثوليكي أو البروتستانتي. تاريخ من التراخي والإهمال والكسل السياسي والإداري والتعليمي والإعلامي أدي إلي تعقيد وزيادة معدلات التوتر الديني المسيحي والإسلامي. وترتب علي تاريخ من سوء إدارة الأزمات الإسلامية المسيحية والعنف الخطابي والمادي المصاحب لها, إلي ازدياد سطوة رجال الدين, وممالأة البيروقراطية لهم وتوظيفهم في محاولة تطويق الأزمات, وتسكينها ولو مؤقتا من خلال المجالس العرفية والتعويضات ومنطق الديات التقليدي. أدت المجالس العرفية إلي إضعاف قانون الدولة وأجهزتها القضائية بين الناس, الأمر الذي دفع غالبهم إلي سياسة التوتير الديني للمنازعات العادية بين الجمهور بهدف تعبئة جمهور المناصرين لحسم الخلافات والمشاكل المالية أو علي أراضي الدولة كما في حالة أبو فانا أو للاعتداء علي حرية الاعتقاد أو ممارسة الشعائر, أو تغيير الديانة أو المذهب أو الحق في الزواج وتأسيس أسرة. وهكذا أدي التواطؤ بين بعض الأطراف إلي المساهمة في إضعاف سيادة قانون الدولة, مما سهل محاولات اشعال الحرائق الدينية في مصر, والتي تحتاج إلي موقف حاسم وتطبيق قانون بصرامة وحزم الى مزيد من الاقلام والاراء