الحياة فى 5/6/2008 ينتظم المشهد الراهن في الشرق الأوسط حول حقيقتين استراتيجيتين رئيسيتين: اللافاعلية الأميركية والنشاط الديبلوماسي المتزايد للأطراف الإقليميين. والأمر هنا لا يقتصر على دور قطر في إنجاز هدنة الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين وبدء المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل بوساطة تركية، وقد غابت الولاياتالمتحدة عن كليهما إلى حد بعيد كطرف فاعل مؤثر، بل يتجاوز ذلك إلى محاولات إقليمية متنوعة المنشأ والوجهة للإدارة السلمية لأزمات وصراعات المنطقة ولإعادة تأسيس توازن القوى فيها بعد اختلالات الأعوام الماضية. وقد أفاض العديد من الزملاء، وبوجه خاص الكاتبان حسن نافعة وجميل مطر، على صفحات «الحياة»، في تفصيل أسباب التعثر الأميركي في الشرق الأوسط، مركزين إما على تداعيات مغامرة احتلال العراق بكلفتها الباهظة ونتيجتها الاستراتيجية الكبرى المتمثلة في تصاعد النفوذ الإقليمي لإيران وتوسع ساحات فعلها أو تراجع قدرة واشنطن على دفع أجندة إلى الواجهة اختزلت في مكون أمني (الحرب على الإرهاب) وآخر ايديولوجي (حلف للاعتدال في مواجهة معسكر للشر) لا يتقاطعان مع حقائق المنطقة المركبة ومن ثم لا يساعدان على صياغة نقاط انطلاق واقعية للمساهمة في إدارة الأزمات المختلفة وحماية المصالح الأميركية في سياقاتها. ومع اتفاقي التام مع جوهر هذه القراءة التحليلية، إلا أن ثمة ثلاثة عوامل إضافية تفسر كذلك التعثر الأميركي ويتعين علينا بالتالي التدبر في مضامينها. فمن جهة، همشت إدارة بوش الأداة الرئيسية التي اعتمدت عليها الولاياتالمتحدة دائماً في ممارسة دورها وتنفيذ سياستها في الشرق الأوسط، ألا وهي الديبلوماسية بعنصريها التحفيزي والعقابي، واستبدلتها باستراتيجيات المواجهة والاحتواء وأدواتها الصراعية المتمثلة في الآلة العسكرية وصفقات السلاح والنشاط الأمني - الاستخباراتي. وعندما أعادت إدارة بوش، وتحت ضغط حلفاء واشنطن العرب، اكتشاف الديبلوماسية في أعقاب حرب لبنان 2006 وشرعت في توظيف جهد حقيقي لإحياء المسار التفاوضي الفلسطيني - الإسرائيلي لم يكن المتبقي من وقت كافياً لإنجاز نقلات نوعية ولم تعد الأطراف الإقليمية على اقتناع بقدرة الديبلوماسية الأميركية على تقديم الكثير. من جهة ثانية، رتب احتلال العراق، وكما أكدت تقارير الكونغرس الأخيرة، ارتفاعاً غير مسبوق في الكلفة المالية والبشرية لدور وسياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط بصورة فرضت العديد من القيود على حركة القوة العظمى في ساحات الأزمات والصراعات الإقليمية وقلصت إلى حد بعيد من فاعليتها. أضحى تحريك واشنطن لقطعها البحرية باتجاه الخليج والساحل الشرقي للبحر المتوسط أو تلويحها باحتمال توجيه ضربات عسكرية ضد المناوئين من إيران وسورية إلى «حزب الله» و «حماس» أمرين لا يثيران الخوف والفزع التقليديين في ظل استنزاف الطاقة العسكرية الأميركية في العراق والتحذير المستمر من جانب قيادات المؤسسة العسكرية الاميركية من مغبة التورط في مواجهات جديدة. أخيراً، دفع تعثر الولاياتالمتحدة وتراجع قدرات حلفائها الإقليميين إلى النظر بعين الشك الى سياستها وحصادها المتوقع ومن ثم البحث عن استراتيجيات بديلة للحركة لا تعول فقط على القوة العظمى، وهو ما عاد وعمق بالتبعية من أزمة واشنطن الشرق أوسطية. وربما تمثل التطور الأهم في هذا الصدد في تحفظ، إن لم يكن رفض، الحلفاء لاندفاع إدارة بوش المستمر نحو المواجهة وشهيتها اللانهائية لدفع أزمات وصراعات المنطقة نحو لحظات حسم بالغة الخطورة تبحث فيها عن منتصرين ومهزومين. اليوم يرفض حلفاء واشنطن في الخليج التعاطي مع إيران وحدها كمصدر للتهديد وعدم الاستقرار يتوجب احتواؤه بعنف، ويبحثون بجدية، كما يشير الانفتاح السعودي على إيران والتنسيق القطري معها بشأن الأزمة اللبنانية عن مساحات للتوافق وفرص للمساومة، قد تجنب الخليج والشرق الأوسط شبح حروب ومواجهات قادمة. كذلك تنشط الديبلوماسية المصرية في محاولة لضبط الأوضاع الأمنية في قطاع غزة والتهدئة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية وفتح باب الحوار الوطني بين السلطة و «حماس»، وهي في كل ذلك لا تنطلق من استراتيجية إقصاء «حماس» وضرورة تهميشها (قارن ذلك بخطاب بوش ضمن فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي بشرم الشيخ وحديثه عن «حماس» كحركة إرهابية تتعين محاربتها كما حوربت النازية من قبل). بل وتنفتح إسرائيل، وهي المؤيدة لمواجهة إيران والرافضة للمساومة مع «حماس»، على سورية في مسار تفاوضي يديره الأتراك ولا يلتفت الحليفان الاكثر أهمية لواشنطن في المنطقة طويلاً الى امتعاض القوة العظمى. الثابت إذاً أن الحراك الديبلوماسي الراهن في الشرق الأوسط يتجاوز في كثير من الأحيان استراتيجيات وسياسات الولاياتالمتحدة ويتشكل في لحظة أضحت فيها محدودية فاعلية الدور الأميركي شديدة الوضوح. وبصورة استرجاعية، يمكن القول إن حرب لبنان 2006 مثلت نقطة التحول الرئيسية في إدراك الأطراف الإقليميين لخطورة الفراغ المترتب على التعثر الأميركي واستحالة إدارة الأزمات والصراعات المختلفة من دون بحث عقلاني ورشيد عن توافقات ومساومات براغماتية، تضع نهاية، وإن تكن موقتة وجزئية، لاختلالات ما بعد احتلال العراق. نعم ثمة مخاوف خليجية من امتداد النفوذ الإيراني ومصلحة فعلية في تطويقه، إلا أن عواصم مجلس التعاون وفي مقدمها الرياض تعلم أيضاً استحالة الاقتراب من استقرار العراق والحفاظ على أمن الخليج وإخراج لبنان من أزمته من دون تنسيق مع طهران يضمن للأخيرة بعض الحوافز ويلزمها في نشاطها الإقليمي ببعض القيود. من جانبها، أضحت نخبة ومؤسسات الحكم في الجمهورية الإسلامية على قناعة بأن الاندفاع نحو التوظيف الصراعي والعنيف لما اكتسبته من أوراق إقليمية في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق يؤلب الحكومات والشعوب العربية عليها وقد تخسر إيران من ذلك على المدى الطويل أكثر مما تربح. تبدت براغماتية الرياضوطهران جلية وفعالة في إنجاح الوساطة القطرية بين الفرقاء اللبنانيين، وقد ساعد ذلك الموقف على قبول التسوية من جانب فريق 14 آذار، في حين استخدمت إيران، ومعها سورية، نفوذهما لدى «حزب الله» وحلفائه لتأمين التعاطي الإيجابي والالتزام بتنفيذ بنود ما أصبح يعرف باتفاق الدوحة. كذلك ينطبق ذات الطابع البراغماتي والرشيد على فعل أطراف إقليمية أخرى في ساحات صراع مغايرة. فكما سبقت الإشارة، تتسم الوساطة المصرية بين الفلسطينيين (على تعثرها الراهن) والتركية بين سورية وإسرائيل بقراءة متوازنة غير إقصائية تعمل على تخطي الثنائيات الحادة بين الاعتدال والتشدد، والغالب والمغلوب. نحن اليوم أمام ديبلوماسية شرق أوسطية براغماتية ورشيدة، تسعى الى ادارة الأزمات والصراعات بطريقة سلمية من خلال تحقيق التوافق بين الأطراف الإقليميين، وتستقل نسبياً عن إرادة القوة العظمى واستراتيجيات المواجهة التي اتبعتها واشنطن خلال الأعوام الماضية. وهي بذلك ربما فتحت الباب تدريجياً أمام تسويات تفاوضية طال انتظارها ولا بديل فعلياً لها.