تصوير: محمد اللو هل فكرت يوما في زيارة مستشفي العباسية (الأمراض العقلية) لتري الحياة التي يعيشها المرضي هناك.. وأسلوب العلاج الذي يخضعون له أم أن صورة جلسات الكهرباء، وما فيها من قسوة -التى نقلها لنا مسلسل عادل إمام الشهير "أحلام الفتى الطائر"- لازالت مستقرة في وجدان المشاهد؟ أسئلة كثيرة وعلامات استفهام تبدو كبيرة مع الاقتراب من المستشفى التي تتراوح تكلفة العلاج فيها بين المجاني و2000 جنيه شهرياً (الدولار يعادل 5.35 جنيه) للمريض الواحد، لكن هذه التساؤلات تقاطعت معها مشاهد عديدة. المشهد الأول يتجسد في الحديقة الواسعة التي تسير فيها مع دخولك من البوابة، والتي لا يسكنها إلا الزرع.. فقلما تجد بعض المرضي يسيرون فى طرقاتها علي الرغم إنها أقيمت خصيصا لهم لقضاء بعض الوقت الترفيهي خارج العنابر. المشهد الثاني هو وجوه المرضي التي تكاد تكون متشابهة حتى في الشعر "المنكوش" والملابس الرثة التي تتشابه أيضا في ألوانها. أما حجرات المستشفي؛ فالحجرة الواحدة- مع مساحتها الضيقة- تحوي ثمانية أسرة. وفي جولتنا قابلنا مريضة شابة جاءت إلي المستشفي لتجد الأمان بعد انفصال والديها ومعاناتها، وأيضا بعد موت جدتها التي كانت تمثل لها الأمل في الحياة -وبحسب كلام المشرف- فهي متفائلة، لدرجة إنها أصبحت تغني في مسرح المستشفي، وتحصل علي مرتب ضئيل،إلا إنها تمارس في كل الأحوال موهبتها. وفى الطريق وجدنا عدداً كبيراً من طلاب التمريض وعلم النفس يتلقون تدريباً عملياً، إذ يوجد بالمستشفى مدرستان للتمريض واحدة للبنين والأخرى للبنات، وهناك طلاب يعدون المريض بإيجاد حل وعلاج لحالته، وهو بالمقابل يصدقهم أملا في الخروج إلى حياته الطبيعية بين الناس.. لكن الحقيقه غير ذلك فهي تنحصر في إجراء الاختبارات، وفي أغلب الأحيان يقوم الطالب بوضع حلول نظرية للحالة علي الورق من أجل مشروع التخرج، ولا يعنيه مساعدة المريض. ولا يقتصر الأمر على سلبية كثير من الدارسين لكن إهمال بعض الممرضات يتجاوز هذه الحدود، فكثيرا ما تجدهن يفضلن النميمة وتبادل الأحاديث في الأمور الخاصة ولا يولين المرضى الاهتمام الكافي، علي الرغم أن دورهن يتعدى مرحلة إعطاء الأدوية والحقن، وذلك بضرورة التحدث مع المرضي للتخفيف عنهم و معرفة ما يدور داخلهم. عشرات السنين بالمستشفى وكانت هناك مفاجأة غير متوقعة وهي: استمرار عدد من المرضى في المستشفى عشرات السنين ورفض أهاليهم تسلمهم لأسباب مختلفة. سلبيات عديدة في المستشفى أثارت حزناً وقلقاً وكان من الضروري الاستماع إلى وجهة نظر الإدارة، فالتقينا مديرة المستشفى الدكتورة منى الشرباصي التى قالت أن "العباسية" بها نحو 2000 سرير منها نحو 1916 صالحة للاستخدام ومشغولة بالفعل وباقي الأسرة تحت الصيانة، ويوجد 267 طبيباً من مختلف التخصصات (نفسية وعصبية، باطنة، نساء و توليد، وأسنان.. إلي جانب وجود صيادلة يعمل منهم حاليا 145. وذكرت أن المريض عند دخوله المستشفى يخضع لإجراء تحاليل و"إشاعات" لتشخيص حالته الصحية، التي يتم علي أساسها تحديد العلاج اللازم وأن أغلب الحالات تعانى من أمراض عقلية، وإلي جانبهم من يعاني أمراض مزمنة مثل السكر والضغط والقلب، وهناك حالات لسيدات حوامل بالمستشفى. وأضافت د. منى أن هناك 4 آلاف مريض يترددون على العيادات الخارجية بالمستشفى شهريا، ومنهم مرضى تلقوا فترة علاج ويأتون للمتابعة، وآخرون يأتون لتسلم تقارير عن حالتهم المرضية للحصول على مساعدات من وزارة التضامن الاجتماعي بموجب هذه التقارير الرسمية. وعن علاج الأطفال، قالت أنه يوجد ثلاث أيام لاستقبالهم في العيادات الخارجية، ومخصص لهم أخصائيين للعلاج، خاصة أن أكثر الأمراض النفسية المنتشرة بين الأطفال هي الحركة المفرطة، الاكتئاب، التوحد، أما الانتحار فحالاته ليست كبيرة. وبالنسبة لعلاج الإدمان فيوجد قسم واحد فقط به 15 سريراً، وقسم آخر لكنه تحت الصيانة والتحديث، و عادة ما يأتي المدمن مع أهله وعائلته وتختلف فترة علاجهم بالمستشفى حسب مدي استجابتهم، والتعامل معهم يتم من خلال بروتوكول خاص يقضى بضرورة تردد الشخص المدمن على العيادة الخارجية بالمستشفى لمدة أسبوعين قبل إيداعه بها لضمان جدية رغبته فى العلاج، وتقسم فترة العلاج إلى مرحلتين، الأولي: انسحاب المخدر من جسد المريض.. أما المرحلة الثانية فهي التأهيل ويتلقى فيها الشخص المدمن العلاج بالمستشفى مقابل 600 جنيه (الدولار يعادل 5.35 جنيه) شهريا. وعن كيفية دخول المريض للمستشفى تقول إن هناك اعتقاداً خاطئاً لدى الناس أنه من الممكن أن يبلغ أى شخص لإدخال مريض ما، وهناك من يتصلون بالفعل للإبلاغ عن حالات معينة، ولكن المستشفى لا تقدم هذه الخدمة إلا إذا كانت هناك حالة تمثل خطورة على نفسها أو علي المحيطين بها، وفي هذه الحالة يكون الإجراء هو الاتصال بقسم الشرطة الذي يصدر منه القرار بتحويل المريض للمستشفى للكشف عن مدي قواه العقلية وحالته، ومن ثم يخضع للكشف عبر لجنة مكونة من ثلاث أطباء نفسيين، وإذا كان رأى الأطباء أنه يمثل خطرا على المحيطين به فيكون القرار إيداعه المستشفى و بدء علاجه. الخطرون على المجتمع وأوضحت الدكتورة منى أنه خلال شهر أبريل/ نيسان 2008 استقبلت العيادة الخارجية 3960 حالة منهم 4 مرضى يمثلون خطورة على المجتمع الخارجي، أما العدد الإجمالى لهؤلاء المرضى بالمستشفى فيبلغ 91 مريض. وهناك حالات استجابتها للعلاج جزئية و لكن أصبح هناك تطور في العلاج.. وعادة ما يصاب المريض بأعراض سلبية مثل الانطواء والرغبة في العزلة والجلوس وحيدا.. والمفاجأة التي فجرتها مديرة مستشفي الأمراض العقلية قولها إنه يوجد مرضى موجودون في المستشفى من 60 سنة وأكثر، وأنه جاري حصرهم، حيث توجد أقسام كاملة تحوى عددا كبيرا منهم، خاصة وأن أغلبهم انقطعت صلته بأهله، وآخرون رفض أبناؤهم وذووهم استلامهم.. وتجرى المستشفى محاولات كثيرة لإقناع هؤلاء الأهالي، عبر عقد ندوات لتوعيتهم بمعنى المرض النفسى والعقلى وكيفية علاجه، وعلى الرغم من وجود ما يسمى بدور النقاهة للمرضى الذين قضوا فترة علاج طويلة ليقيموا بها خاصة المسنين ذوي أمراض الشيخوخة، إلا أنها محدودة جدا وتكاليفها باهظة. خدمات فندقية ومجانية وعن تكلفة العلاج، قالت إن 40% من أسرة المستشفى مجانية، وهناك أقسام أخري مطورة بمصروفات، الدرجة الأولي مصروفاتها 300 جنيه شهريا، والثانية 210 جنيه، والثالثة 150 جنيه أما المباني الجديدة فهي مكيفة وفندقية، والدرجة الأولى بها -التي تتكون من حجرة بسرير واحد و حمام ملحق بها- مصروفاتها 2000 جنيه والثانية 1000 جنيه وهى حجرة بسريرين وحمام، أما الثالثة 600 جنيه وبها 8 أسرة. وعن برامج توعية المواطنين بالأمراض النفسية وطرق علاجها فتقدم الأمانة العامة للصحة النفسية حلقات توعية من خلال موقعها الألكتروني، كما تعقد ندوات لتعريف الناس بالمرض بشكل مبسط و كذلك ندوات أخرى لطلاب المدارس. مرضى الشوارع وبالنسبة لمرضى الشوارع المصابين بالأمراض العقلية، فتقول أنه لا يتم علاجهم لأسباب مختلفة خاصة بهم سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية، ولكن من الممكن إن تتلقاهم المستشفى عن طريق الشرطة عندما تلقى القبض عليهم، وبالتالي المستشفى ليس من مهام عملها جمع هؤلاء المرضى من الشوارع، ولكن من الممكن أن يوقع مفتش الصحة مع طبيب آخر على استمارة تفيد بوجود شكوك لديه من معاناة هذا الشخص من مرض عقلي و يوصى بإيداعه المستشفى بإشراف النيابة بعد إبلاغ الشرطة. والمفاجأة الأخرى التي كشفتها لنا الدكتورة منى هو وجود أنشطة ترفيهية للتخفيف عن المرضى حيث يوجد كورال غنائي، إلي جانب الحفلات وعرض المسلسلات.. وكذلك برنامج العلاج بالعمل عبر المصنوعات الخشبية والتطريز وفن التريكو.. والمدهش إنهم يشتركون بها فى معارض وفي حالة بيعها يحصلون على ثمنها، كما يوجد مكتبة ووحدات مكتبية صغيرة، حيث ترسل جمعية الرعاية المتكاملة للمستشفى 400 كتاب سنويا، كما تقوم المستشفى بتعليم بعض المرضى حرف مثل صيانة المحمول و تدريبهم على الكمبيوتر. مركز الرعاية النهاري وعن المرحلة النهائية في العلاج، قال الدكتور طارق جمال الدين مدير مركز الرعاية النهاري إنه عند بداية تماثل المريض للشفاء تبدأ مرحلة الإعداد لتأهيله من خلال وحدة الخدمة الوسطية ليخرج من عالم الوحدة الذي اعتاده. وأضاف أنه يتم تدريب المريض للاعتماد على نفسه، فيقوم بترتيب سريره والاشتراك فى إعداد الطعام بمساعدة المشرف والاستيقاظ مبكرا وإجراء التدريبات الرياضية وبعدها يتم عمل لقاء جماعي بين المرضى ليعبر كل منهم عما فعله بالأمس فى جلسة علاج جماعي . ويعد المركز بمثابة وحدة وسطية من خارج المستشفى لخدمة المريض النفسي الذي يأتي إلي المستشفى كل يوم في الثامنة صباحا حتى الثالثة عصرا، ويتناول إفطاره مع المرضى المقيمين بالمستشفى ويحضر اللقاء الجماعي ويتناول وجبة الغداء معهم ثم يعود لمنزله. و يهدف المركز إلي اشتراك المريض فى مهارات للتفاعل مع بقية المرضى للعمل بشكل جماعي.. وهناك مرضى تعلموا حرف، وكانت سببا لخروجهم من المستشفى.. وتتنوع الأنشطة ما بين اليدوية للرجال ك"الأركيت" والفنون النسائية مثل صناعة المفارش والحقائب.. كما توجد أنشطة ذهنية عبر مناقشة يشارك فيها كل المرضى. و داخل وحدة العلاج التأهيلي، قالت الدكتورة حنان غزيري رئيس الوحدة، إن هذه الخدمة دخلت مصر منذ 7 سنوات فقط، ويتم من خلالها استغلال أي شىء في علاج المرضى، ومنها استخدام الفن مثل الغناء، التمثيل، الرسم كوسيلة تشخيصية وعلاجية للمريض، ويتم تنظيم حفلات بشكل دائم في المناسبات بدار الأوبرا، يشارك فيها عدد من المرضى، وهى وسيلة محببة لهم لأنهم يفعلون ما يحبونه وهو ما يجعل هناك سهولة فى التواصل معهم، لدرجة أن 90% من المرضى الذين استخدمت معهم هذه الطريقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة قد تحسنوا.