لم أتخيل للحظة أنني سأجتاز الحدود المصرية الفلسطينية لأتجول في مدينة العريش صباح الأربعاء 23/1/2008 ، ولكن الواقع كان مغايراً تماما، فما أن دقت الساعة الحادية عشرة صباحا من ذلك اليوم إلا وكنت أتجول في ارض الكنانة اقتنى ما احتاج اليه أنا وعائلتي... وتبدأ الحكاية حينما استأجرت سيارة من ميدان فلسطين بمدينة غزة إلى مدينة رفح جنوب القطاع حيث الحدود المصرية الفلسطينية وكان ذلك بعد أن تناقلت وسائل الاعلام خبر فتح الحدود بين الجانبين من اجل كسر الحصار والتخفيف عن المواطنين الفلسطينيين. الذين سبقني عشرات الآلاف منهم وعلامات الفرح والفرج تعلو ملامحهم. للوهلة الأولى انتابني الذهول، فالكل يجري. الكل يضحك. المكان ممتلئ بالناس. اختلطت الوجوه وتوحدت المعالم. لم اعد أميز بين فلسطيني ومصري، فالكل واحد. الفرق الوحيد هو اللهجة التي شعرت للحظة أنها قد ذابت وسط الزحام. وأخذت أسير بين الآلاف من الناس واسمع أحاديثهم والفرح يسيطر عليهم. بعضهم استعجل الأمر واجتاز الحدود من خلال تسلقه الجدار الذي تجاوز ارتفاعه مترين، والبعض الآخر اخذ يعد سلما خشبيا لكي يسهل عملية الاجتياز للنساء اللواتي حضرن بصحبة عائلاتهن. أما الفريق الثالث، الذي انضممت اليه، فأخذ يسير نحو بوابة صلاح الدين لكي نعبر الحدود إلى رفح المصرية دون تسلق الجدار أو استخدام السلالم. لحظة الحرية كانت تلك اللحظة التي وطأت بها قدماي رفح المصرية. هنا لن أرى الطائرات الحربية الاسرائيلية. وهنا لن أسمع خبرا عاجلا عن عملية اغتيال. لم أفكر بأمي القابعة في منزلنا بمدينة غزة تتابع عن كثب مجريات المعبر. ولم أفكر بشقيقتي التي أخذت تتصل على هاتفي النقال وهي تأمل أن تلحق بي الى الأراضي المصرية. في بداية رحلتي التي لم اشعر بالتعب خلالها رغم أني سرت مشيا على الأقدام لساعات، قابلت العديد من رجال الأمن المصريين الذين استقبلونا بالدعاء والتكبير. كانوا سعداء بأننا تمكنا من الوصول اليهم، وبأننا مازلنا أحياء، وأصحاب إرادة، ونحب الحياة، ونتوق للحرية رغم كل الآلام والمخاطر التي تكبدناها منذ أشهر. وأخذت أتجول في رفح المصرية حيث الناس. الكل يهرول إلى المحال التجارية لشراء احتياجاته واحتياجات عائلته من المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية. للحظات لم أع ما يدور حولي خاصة وأنني أصبحت وسط زحمة لم أشهدها في حياتي من قبل: زحمة من السيارات ومن الناس، وزحمة من الدواب، وجالونات السولار الذي حرم منه الفلسطينيون في غزة بفعل الإجراءات الإسرائيلية. وكنت واحدة من أولئك الناس الذين أسرعوا لتلك المحال لشراء الشيء اليسير وخاصة علاج والدتي الذي فقد في غزة هاشم. هناك العديد من الأماكن التي تتوق نفسي للوصول اليها، وفي المقابل كانت هناك حشود من الأخوة المصريين الذين جاءوا إلى غزة ليروا بأم عينهم ما هي فلسطين تلك التي ما زالت منذ عشرات السنين وهي تتصدر نشرات الأخبار ومن هم هؤلاء أبناء غزة هاشم الذين سجلوا أروع صفحات الصمود والتصدي فكانت ارادتهم أقوى من الحصار. وقفت بجوار السيارات المصرية وكان السائقون ينادون إلى العريش. إلى العريش. كان عشرات الآلاف، من الفلسطينيين يتدافعون في تلك السيارات من اجل الوصول إلى العريش لكي يشعروا بحق أنهم بدأوا رحلة على طريقهم نحو الحرية، وتفكيرهم الوحيد الذي سيطر عليهم أن من حقهم الحياة، ومن حقهم الحرية ومن حقهم أيضا التنقل بأمن وسلام. كنت واحدة من عشرات الآلاف الذين استقلوا السيارات إلى العريش. وعلى الطريق مررنا بمحافظة شمال سيناء والتي استقبلتنا بعبارة ادخلوها بسلام امنين. أي إحساس ذلك الذي انتابني! أنا هنا. هنا أنا: في ارض الكنانة دون إجراءات أمنية. دون تفتيش .، دون السؤال لماذا أتيت؟ ومتى ستغادرين؟ أخذت احدث نفسي: أحقا أنا لست في مدينتي غزة التي حوصرت ومازالت محاصرة؟ أحقا أن هناك ساعات ومسافة طويلة تفصلني عن بيتي الراسخ هناك تحت نير الاحتلال؟ الكثير من الأفكار تزاحمت في عقلي. ورغم أنني سافرت إلى مصر عشرات المرات في أوقات مضت، إلا أن هذه المرة ورغم أنها ليست وفق إجراءات قانونية، كانت الأجمل. كانت بنكهة التحدي، بنكهة الانتصار، بنكهة الأمل. الكثير من النكهات تداخلت حتى نجم عنها طعم الحرية. وأخيرا وصلت إلى العريش، وذهبت الى سوقها الذي اعرف معظم محاله التجارية، فقد تسوقت منها في مرات عديدة. ولكن هذه المرة كانت مختلفة فالرفوف شبه خالية، لأن المدينة التي لا يتجاوز تعداد سكانها عشرات الآلاف حل عليها ضيوف تجاوزوا في اليوم الأول لخرق الجدار أربعمائة ألف فلسطيني. يا الله! ماذا حل هنا؟ هل زار تسونامي العريش؟ رغم أنها زيارة وردية حملت في طياتها كل شيء جميل إلا أنها كشف عن نقاط سوداوية، فشعبي بات بأمس الحاجة لأي شيء حتى لو كان ذلك علبة سردين. هل الحاجة أوصلتنا لذلك؟ وقررت العودة إلى حيث أتيت، فقد اشتريت بعض المستلزمات العاجلة، وغادرت إلى غزة هاشم وفي نفسي حنين لهنا وهناك. وأثناء عودتي أصابني الكثير من الذهول: حشود من الناس. الكل يصرخ. الكل يسير. بعضهم سار أكثر من ثماني ساعات سيرا على الأقدام. وبعضهم عاش لحظات كانت الأجمل في حياته على مدار عمره نتيجة لقاء الأحبة والأهل. وبعض المرضى تمكنوا من الوصول للمستشفيات للحصول على العلاج. وأخيرا وصلت لوالدتي وحدثتها عن يومي الذي تنقلت فيه ما بين غزة ورفح المصرية والعريش وهمست لها: وداعا للقلق فعلاجها بات في يدها. غابت شمس ذلك اليوم وحل الظلام ولكن كلمة النوم شطبت من قاموس الأنشطة الحياتية في العريش فقد ظلت الشوارع تنبض حتى الصباح. وحتى أولئك الذين فتحت لهم بيوت العريش أبوابها لم يناموا. يوم الخميس 24/1/2008 قررت فيه الراحة وتدوين بعض مشاهد الأمس. أما يوم الجمعة فقررت أن آخذ أبناء أخي لكي أكون لهم مرشدا في الطريق، وأقول لهم إننا امتداد لذلك العالم. ووصلنا الحدود العاشرة صباحا بعد أن مللنا من انتظار سيارة لتقلنا من غزة إلى رفح، فمدينة غزة أصبحت مدينة أشباح لا ترى فيها إلا الإخوة المصريين. وصلنا الساعة العاشرة صباحا وإذا بزفاف يعلوه الزغاريد والتهليل، فالعروس فلسطينية، أما العريس فهو مصري، وجسدوا لوحة رسمت بكلمات الفرح، فبعد ثلاثة أعوام من عقد قرانها على أحد أقاربها في مدينة رفح المصرية، اجتازت إخلاص حمد الفلسطينية الحدود مع مصر بثوب زفاف أبيض تعلوه عباءة سوداء. العروس إخلاص وعائلتها والعشرات من الأقارب اجتازوا الحدود بعد دقائق معدودة من إحداث جرافة فلسطينية فتحات في الجدار الحدودي. مشهد العروس الفلسطينية على الحدود دفع عشرات النسوة إلى إطلاق الزغاريد، فيما نثرت والدتها ونسوة من أقاربها الورود والحلوى فوق رؤوس المارة من الفلسطينيين والمصريين عبر الحدود. وكان العريس سليمان الغبري في الجهة الأخري من الحدود مرتديا بدلة الزفاف وربط عنق ذات زخرف مميز ينتظر عروسه في مشهد لن يمحي من ذاكرتهما. استقل الاثنان سيارة مرسيدس صنعت في الربع الأخير من القرن العشرين الماضي. كانت تنتظر على مقربة من الحدود، وحملتهما إلى منزل العريس الذي لا يبعد عن منزل أهل العروس سوى كيلو متر واحد. المشهد الثاني... وخلال سيري بالقرب من بوابه صلاح الدين، وقبل أن تطأ قدماي أرض رفح المصرية فإذا بشاب من غزة يصرخ على الهاتف الجوال لذويه في غزة قائلا: أنا في مصر. أنا في العريش، دون أن يعي أين هو والى أين يتوجه. واخذ يسير وسط جموع المواطنين بحثا عمن يدله إلى أين يمكن أن يذهب خلال هذه الرحلة التي لم تكن في الحسبان. المشهد الثالث.. أخذت أسير ومن معي من الأطفال واستمع إلى همساتهم وضحكاتهم وعيوني كانت ترافق الآلاف من المواطنين الذين ارتسم على محياهم الألم والتعب من تلك الجولة، فالكثير منهم ذهب لشراء حاجات بيته بعد أن كادت غزة تقبل على كارثة عنوانها هنا أناس جوعى. وقفت بجوار رجل كان يحمل فرشة من الأسفنج وبادرته بسؤال عن سبب شرائها ولم يتكبد كل هذا التعب من اجلها فقال بصوت مرهق: لقد اشتريت غرفة نوم ولم أجد في غزة فرشة للسرير. فتح الحدود حقق لي أملي في اقتناء تلك الفرشة. مواطن آخر اخذ يجر أمامه قطيع من الأغنام وبالكاد يستطيع السير على قدميه، فالرحلة شاقة وطويلة، وكلما سأله احد هل هناك المزيد من الأغنام؟ كانت إجابته نعم هناك المزيد. وتوالت المشاهد وكل مشهد يزيد من الالم في النفس ويدلل على أن المصاب الذي الم بالشعب الفلسطيني لاسيما في قطاع غزة كبير. أما أنا ومن كان معي فقد واصلنا الرحلة التي أجهدنا خلالها التعب وتمكنا بصعوبة فائقة من شراء قنينة بيبسي واحدة، تناول كل منا جرعة منها، فبعد التسونامي الغزي الذي هب على العريش لم يبق فيها من طعام أو شراب إلا النادر الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وكان سعره قد تضاعف مرتين وأكثر. وعدنا إلى غزة، وطوال الطريق أتساءل هل سيأتي اليوم الذي نسافر فيه من فلسطين إلى أي مكان، مثلما يفعل الناس في بقية العالم؟