بالرغم من أن الوساطة المصرية لتحقيق تهدئة بين الفلسطينيين في قطاع غزة وإسرائيل، تتضمن وقف إطلاق الصواريخ على البلدات الإسرائيلية مقابل توقف الاعتداءات الإسرائيلية، نقول بالرغم من أن هذه الوساطة نجحت في توفير كل فرص تحقيق اتفاق، إلا أن مواقف وسلوك الحكومة الإسرائيلية لا تشير إلى رغبتها في تحقيق مثل هذه التهدئة. المحاولات المصرية صعدت نشاطاتها واتصالاتها مع حركة حماس الشهر الماضي، إلى أن وافقت الحركة على حصر التهدئة التي يفترض أن تستمر ستة أشهر على قطاع غزة فقط، مما يعني أن حماس تنازلت عن شرط أن تشمل التهدئة الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل متزامن، ثم استكملت القاهرة الاتصالات مع كافة القوى والأحزاب والفصائل والجماعات الفلسطينية المسلحة وغير المسلحة، الشرعية وغير الشرعية، وحصلت على موافقتها على الالتزام رغم تحفظ بعضها مثل حركة الجهاد الإسلامي. معنى ذلك أن مصر نجحت في الحصول على توافق وطني فلسطيني شامل بشأن التهدئة وشروط تحقيقها، مقابل وقف إسرائيل اعتداءاتها ورفع الحصار وفتح معبر رفح الحدودي، وكان من المفروض أن يقوم الوزير المصري عمر سليمان بزيارة إسرائيل يوم الاثنين الماضي الخامس من هذا الشهر، لعرضها على الحكومة الإسرائيلية والحصول على موافقة عليها، غير أن أسبابا إسرائيلية أدت إلى تأجيل تلك الزيارة. تأخر زيارة سليمان لا علاقة له بأمور فنية، فالأرجح أن الاقتراحات المصرية الفلسطينية قد وصلت في وقت سابق للمعنيين بالأمر في إسرائيل، مما يجعل تأجيل الزيارة مؤشرا على موقف حكومة أولمرت التي سبق لمعظم وزرائها أن عبروا عن رفضهم لهذه التهدئة، سواء من حيث المبدأ أو عبر الحديث عن شروط أخرى من الصعب على الفلسطينيين قبولها. ولم تكتف إسرائيل بالتعبير عن رفضها التهدئة، بل واصلت اعتداءاتها بشكل يومي على قطاع غزة، مما يؤكد أن الأوضاع في المنطقة لا تتجه نحو الهدوء وإنما في اتجاه معاكس أي نحو المزيد من التصعيد، وأن إسرائيل تحضّر للقيام بعدوانها الواسع على قطاع غزة الذي تتوقع أوساط فلسطينية وإسرائيلية أن يبدأ في غضون الشهر المقبل، أي بعد احتفالات إسرائيل بالذكرى الستين لقيامها كدولة عام 1948. ومع ظهور مؤشرات فشل الوساطة المصرية بشأن التهدئة، أخذت حركة حماس تصعّد من تحذيراتها بشأن انفجار الوضع في قطاع غزة، نظرا لاشتداد وطأة الحصار على حياة الناس فيه، وهي تحذيرات سبقت جهد الوساطة المصرية وربما كانت احد دوافعها. وفي المقابل عادت مصر لتحذر من أنها لن تسمح بانفجار الوضع على حدودها كما حصل في شهر يناير الماضي، كما أن الناطق باسم الرئاسة المصرية رفض ما قالت حماس انه تعهد مصري بفتح معبر رفح في حال فشلت مساعي التهدئة مع إسرائيل. حماس عادت مجددا لتتحدث عن خيارات مفتوحة لكسر الحصار ومواجهة العدوان الإسرائيلي، غير أن الفحص الدقيق للوقائع لا يشير إلى وجود مثل هذه الخيارات، وأن الأمور في قطاع غزة تندفع نحو خيار إجباري يقع في نطاق ردود الفعل على الحصار والعدوان الإسرائيلي، اللهم إلا إذا كانت حماس ستعمد إلى تشجيع مؤيديها لاجتياح الحدود المصرية مع القطاع، وتطوير أزمة هناك لتحريك الوساطات مرة أخرى. وبغض النظر عن الحسابات السياسية العامة والخاصة للأطراف المتصارعة أو المتوافقة، ابتداءً بحماس مرورا بمصر وإسرائيل والسلطة وبقية الفصائل وأية أطراف أخرى، فإن الأوضاع في قطاع غزة تقف فعليا على حافة انفجار شامل بعد أن أدى الحصار إلى شلل كامل يطال أبسط مقومات الحياة. وفي الواقع فإن إسرائيل لا تجد نفسها مضطرة لإبرام اتفاقيات مع حركة حماس التي تعتبرها منظمة إرهابية، وتحذر من أن الحركة تسعى وراء التهدئة من أجل التقاط الأنفاس وإعادة بناء وتنظيم قوتها العسكرية، وهي أي إسرائيل قادرة إذا تطلبت مصالحها وأرادت أن توقف الصواريخ الفلسطينية، مما يؤكد حقيقة أن إسرائيل تستخدم إطلاق هذه الصواريخ كذريعة جاهزة لتغطية عدوانها المستمر ولتمرير مخططاتها وأهدافها السياسية. ونعلم نحن الفلسطينيون، وكل من يتابع تفاصيل الحياة في الأراضي المحتلة، أن تهديدا صريحا وجديا من قبل إسرائيل باستهداف قيادات سياسية أو بقصف بعض المنشآت الحيوية جدا بالنسبة لحركة حماس في غزة، كفيل بأن يفرض على الحركة وعلى الفصائل الأخرى أن تفكر كثيرا قبل أن تصدر أوامرها بإطلاق الصواريخ. وإذا كانت سياسة سحب الذرائع الإسرائيلية من قبل حماس عبر التهدئة التي لم يكتب لها النور حتى الآن في قطاع غزة، لم تبدل من واقع الأمر شيئا، فإن الأمر ليس أفضل حالا على الضفة الأخرى للقوى الفلسطينية المتصارعة والمنقسمة على ذاتها. فبالرغم من الجهود الأميركية الحثيثة، وآخرها الزيارة واللقاءات المكوكية التي أجرتها وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي أمضت نحو أربعة أيام متنقلة بين تل أبيب ورام الله مطلع الأسبوع الماضي، نقول بالرغم من هذه الجهود التي تحاول التوصل إلى إعلان لإنقاذ المفاوضات قبل زيارة الرئيس بوش لإسرائيل في الثالث عشر من الشهر الجاري، إلا أن النتائج محبطة للآمال. الإسرائيليون تحدثوا عن تقدم في مجالي الأمن والحدود، تم إحرازه في لقاء عباس أولمرت يوم الاثنين الماضي، سرعان ما نفاه عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبد ربه، مما يشير إلى صعوبة تحقيق تقدم حقيقي في المفاوضات. وبالتزامن مع وجود رايس في إسرائيل، واجه رئيس حكومتها إيهود أولمرت أزمة جديدة ترشح مختلف الأوساط الإسرائيلية أنها ستدفعه إلى الاستقالة، رغم أنها ليست المرة الأولى التي يتم استدعاء أولمرت للتحقيق رسميا بتهم الفساد، لكنه هذه المرة يواجه تهما جدية جدا، تتكتم عليها الأوساط الإسرائيلية وترفض الجهات الرسمية السماح للصحافة بنشرها. الأزمة التي يواجهها رئيس الحكومة الإسرائيلية، تضيف عاملا جديدا وجديا، معطلا لإمكانية متابعة وإنجاح المفاوضات وجهود التسوية، فهو تحت وطأة الأزمة إما أن يكون أضعف من أن يحتمل تقديم ما يساعد على دفع المفاوضات، أو أن إجراءات استبداله ستحتاج إلى وقت لا تحتمله الفرصة المتبقية لإنجاز تقدم في العملية السياسية. وبغض النظر عن الاحتمالات المطروحة للتصرف بشأن أزمة أولمرت، فإنها تشكل مهربا للإسرائيليين الذين لم يتوقفوا عن خلق الذرائع والمبررات والعقبات أمام إنجاح المفاوضات، وبذلك تكون الإدارة الأميركية قد فقدت كل قدرة على تحقيق ما بدأته في آنابوليس، هذا عدا عن عجزها موضوعيا عن ممارسة ولو الحد الأدنى من الضغط على إسرائيل بما يسمح حتى بإبقاء قنوات التفاوض مفتوحة ولو على أمل بسيط. هكذا تبدو الخيارات والمراهنات الفلسطينية على جانبي خط الانقسام والصراع، وتصبح أطرافه أكثر فأكثر تحت رحمة المخططات الإسرائيلية، وبالتالي فإنه لا سبيل لإعادة تفعيل الخيارات الفلسطينية ومعالجة الأزمة الشاملة المتفاقمة، إلا بالعودة للحوار والاتفاق على سبل وآليات إنهاء حالة الانقسام والعودة للوحدة. وإذا كانت مؤشرات العودة للحوار ضعيفة حتى الآن، فإن الإمساك بهذا الحوار باعتباره مفتاح الحل دونه تضحيات وصعوبات كبيرة، إذ يترتب على الفلسطينيين أن يدفعوا مرة أخرى ثمن وحدتهم وأخطائهم، بعد أن دفعوا ثمنا كبيرا بسبب انقسامهم وصراعهم. وفي الحقيقة فإنه لم يتبق أمام الفلسطينيين إلا أن يواجهوا، وهم منقسمون وفي حالة من الضعف الشديد، الارتفاع المتواصل لمؤشرات صيف ساخن على المنطقة، تسعى وراءه إسرائيل والولايات المتحدة، وربما تكون غزة ميدان حريقه الأول.