تواجه الدول العربية أزمة طارئة ومباغتة لم تكن مطروحة بإلحاح خلال السنوات الماضية وذلك بعد الارتفاع الحاد في أسعار السلع الغذائية، ونقص كميات الإنتاج العالمي المتوافرة من الحبوب وخاصة القمح والأرز وغيرها، مما يشير إلى امكانية اندلاع قلاقل واضطرابات اجتماعية في أكثر من بلد عربي. والسؤال المطروح: كيف ستتعامل الدول العربية مع هذه الأزمة الملحة، التي تتعلق بأقوات الناس وتهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وكيف يمكن علاج أزمة الغذاء والفجوة الغذائية العربية المزمنة في المدى القصير والمتوسط، وفي الأجل الطويل الأمد؟ تأتي أهمية هذه التساؤلات في ضوء التحذيرات التي تطلقها المنظمات العالمية من مخاطر تفاقم أزمة الغذاء في العالم خلال السنوات القادمة، حيث توقع البنك الدولي استمرار أزمة شح الغذاء في العالم حتى عام 2015م، أي ان العالم سيواجه سبع سنوات عجاف قادمة من (2008 حتى 2015م) يعاني فيها نقص كميات الغذاء وارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية، على الرغم من أن كثيرا من الدول سواء في الشمال الغني أو الجنوب النامي والفقير قد بدأت بالفعل إجراءات سريعة لتطويق الأزمة ومحاولة الحد من غلوائها، والسعي لتحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي من الغذاء. فعلى سبيل المثال، اتخذت الحكومة السنغالية عدة قرارات للتعامل مع استفحال أزمة نقص الغذاء، وذلك بعد ان انتقد الرئيس السنغالي عبدالله واد منظمة الأغذية والزراعة العالمية «الفاو« وطالب بإلغائها لفشلها في حل مشكلة الغذاء في العالم، وجاءت قرارات حكومة السنغال بوضع خطة طوارئ عاجلة تستمر ست سنوات لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء. فقد أعلن الرئيس السنغالي في 18 ابريل الماضي ما أسماه: «خطة الهجوم الزراعي الكبير للمواد الغذائية والوفرة، التي ستتيح للسنغال القيام بثورتها الزراعية في غضون ست سنوات«. وقدرت الحكومة السنغالية ما تحتاج اليه لتحقيق هذه الخطة بحوالي 524 مليون يورو، لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي خلال 6 سنوات عبر استصلاح الاراضي الزراعية وتحقيق مستوى إنتاج سنوي يبلغ مليوني طن من الذرة وثلاثة ملايين طن من الدقيق النشوي، و500 ألف طن من الأرز. وقد بدأت السنغال مؤخرا، في تلقي عروض تمويل واستثمار من الصين والإمارات للمشاركة في هذه الثورة الزراعية المنتظرة هناك. فإذا كانت السنغال قد قررت تطبيق سياسة التصدي لمخاطر الجوع والمجاعات وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء في غضون سنوات قليلة قادمة، ألا يحق لنا أن نتساءل: لماذا لا يتحرك العرب لتحقيق هذا الهدف والوصول الى مبتغاهم وحلمهم الذي طالما تطلعوا إليه في بلوغ أو توفير الأمن الغذائي العربي؟ ولمناقشة هذه القضية، لعل من المناسب طرح النقاط التالية:- أولا: إن ردود الفعل العربية حتى الآن على أزمة الغذاء رغم إلحاحها ومصيريتها، لم ترتق إلى مستوى التخطيط والتفكير الاستراتيجي المنشود، ويمكن القول ان ردود الفعل العربية اتسمت بالفردية الى حد كبير، وتعاملت مع الأزمة في إطار سياسات جزئية أو طارئة ومحدودة داخل كل قطر عربي في محاولة لما يمكن أن نطلق عليه «احتواء الحرائق أو منع نشوبها«، عبر زيادات محدودة في الأجور أو منع تصدير بعض السلع الغذائية، أو تخفيض أو إلغاء الرسوم الجمركية على السلع الغذائية المستوردة، أو زيادة الدعم المقدم للسلع الغذائية الأساسية مثل الطحين والزيوت والأرز. غير انه رغم أهمية كل هذه الاجراءات والسياسات كخطوات عاجلة وضرورية للتعامل السريع مع الأزمة داخل كل قطر عربي، إلا أن ذلك كله لا يكفي لوضع حلول جذرية واستراتيجية للتعامل مع الأزمة ومواجهة تداعياتها في المستقبل. ومن هنا، نؤكد أهمية استعادة روح العمل الجماعي العربي المشترك لمواجهة هذه الأزمة، وبالذات فيما يتعلق بقضية تتعلق بحياة ومصير الناس. وفي هذا السياق، نعتقد ان قضية مثل «الأمن الغذائي العربي«، والسعي للتخلص من كارثة الفجوة الغذائية العربية المزمنة، التي تجعل معظم الدول العربية تستورد نحو 90% من احتياجاتها الغذائية من الخارج، مما جعل الدول العربية من أكثر بلدان العالم انكشافا على مستوى الأمن الغذائي، وجعل الحالة العربية في مجملها حالة تبعية غذائية للخارج وخاصة للغرب، وهو أمر لم يعد يمكن السكوت عنه لأنه يشكل حالة فشل ذريع لسياسات التنمية العربية. ثانيا: ان التحرك العربي الجماعي الذي يمكن ملاحظته لمواجهة أزمة ارتفاع أسعار الغذاء ونقص الاحتياطي العالمي منها، قد جاء عبر اجتماع وزراء الزراعة العرب في الرياض في أواخر ابريل الماضي في إطار اجتماعات منظمة التنمية الزراعية العربية، حيث أصدروا ما أطلقوا عليه «إعلان الرياض« الذي تضمن 10 تدابير لتعزيز التعاون العربي في النشاط الزراعي، والدعوة إلى انشاء صندوق طوارئ في اطار برنامج عربي طارئ لمواجهة أزمة نقص الغذاء بهدف مساعدة الدولة العربية الأكثر تضررا من أزمة الغذاء العالمية. وتضمن «إعلان الرياض« الزراعي توصيات منها، المبادرة إلى التحرك السريع لتحقيق زيادة واستقرار إنتاج الغذاء في الوطن العربي وخاصة المنتجات الرئيسية كالحبوب والبذور الزيتية والسكر على أن يكون التحرك العربي قطريا وقوميا. كما تضمنت هذه المبادرة الدعوة إلى استنهاض همم القطاع العام والخاص ورجال المال والأعمال العرب للتوجه الى الاستثمار في المشروعات الزراعية المشتركة في الدول المؤهلة ضمن البرنامج الطارئ وسط دعوة عاجلة لعقد اجتماع لهذا الغرض قبل نهاية عام 2008م. كما دعا الإعلان إلى أهمية التزام الدول العربية المستضيفة للمشاريع الزراعية العربية المشتركة، بمنح التسهيلات والامتيازات والضمانات المشجعة والمحفزة على الاستثمار العربي في مجال الأمن الغذائي. وفي تقديرنا، أن «إعلان الرياض« الزراعي يمثل بداية التحرك نحو العمل المطلوب، لكن هناك أعمالا ومهام كبرى أخرى تحتاج تصميما وإرادة عالية لتحويل مبادئ هذا الإعلان الزراعي إلى مشروع حركة على أرض الواقع، حتى لا يتحول «إعلان الرياض« الزراعي هذا إلى مجرد إعلان نوايا أو بيان إبراء ذمة من جانب وزراء الزراعة العرب. ولا نغالي بالقول، إن هناك حاجة لنيل هذا الإعلان دعما قويا من الرؤساء والزعماء العرب سواء عبر الاتصالات الثنائية أو من خلال قرارات مجالس الوزراء في الدول العربية المختلفة لتبنيه على نحو عاجل وتقديم التسهيلات اللازمة لتطبيقه. ثالثا: في تقديرنا، انه كي يرى «إعلان الرياض« الزراعي تطبيقه على أرض الواقع، فربما هناك حاجة عاجلة لعقد اجتماع طارئ على مستوى مجلس الجامعة العربية لوزراء الزراعة والتنمية والتموين في إطار المجلس الاقتصادي العربي، بحضور كبار المستثمرين ورجال الأعمال العرب المهتمين بالاستثمار في المجال الزراعي لتدارس خطة عربية شاملة للنهوض الزراعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وطرح المشروعات الانمائية الزراعية المختلفة المؤهلة لتحقيق تلك الغايات، على أن يتم صياغة كل ذلك في اطار «خطة تنموية شاملة في مجال الاستثمار الزراعي«، يمكن طرحها لنيل التصديق والتدعيم من القمة الاقتصادية العربية المزمع عقدها في العاصمة الكويتية في مطلع العام القادم (يناير 2009م)، أي ان هناك نحو 6 أشهر لبلورة وصياغة هذه الخطة التنموية الشاملة للنهوض الزراعي والتكامل التنموي بما يحقق هدف «الاكتفاء الذاتي العربي من الغذاء« في غضون سنوات قلائل. رابعا: لطالما ردد العرب قديما إبان فترة الحماس لمشاريع الوحدة والتكامل العربي، تطلعهم لجعل السودان بما يتوافر فيه من أراض زراعية كبيرة تبلغ ملايين الأفدنة وما يمتلكه من موارد مائية هائلة وخاصة من نهر النيل ليكون «سلة الغذاء العربي«، وقد حالت أجواء الانقسام العربي أحيانا، وغياب الاستقرار السياسي في السودان في أحيان أخرى دون السعي جديا لتحقيق هذا الحلم العربي. ونعتقد جديا، أن الفرصة قد أصبحت مواتية الآن في ظل أجواء المصالحة السياسية في السودان منذ عدة سنوات للبدء في تطبيق هذا المشروع التنموي النهضوي العربي الحضاري الكبير، بعد أن أصبح خيارا مصيريا واستراتيجيا في ضوء استفحال أزمة الغذاء العالمي. صحيح ان الوضع السياسي في السودان مازال مشوبا بالغموض بشأن مصير جنوب السودان ومنطقة دارفور لكن الحكومة السودانية تسير في نهج محاولة نزع فتيل هذه الأزمات عبر النهج التفاوضي والسعي لتحقيق مشروع المصالحة الشاملة ومشاركة كل القوى السياسية والأقاليم السودانية في العملية السياسية وتقاسم الثروة والسلطة عبر المشاركة السياسية، ولولا التدخلات الخارجية التي تستهدف ثروات السودان في دارفور والجنوب لربما أمكن الوصول إلى هدف المصالحة السودانية الشاملة. لكن كل ذلك، لا يمنع أن يسارع العرب إلى تنفيذ مشروع «سلة الغذاء العربي« في المناطق الأخرى الشاسعة من أراضي السودان التي تشهد استقرارا مثل شمال وشرق السودان عبر استصلاح الأراضي هناك، التي لا تحتاج إلى تكاليف كبيرة قبل أن تعطي إنتاجا وفيرا متوقعا، ويلاحظ أن مجموعة من الشركات ورجال الأعمال والمستثمرين في كل من السعودية ومصر قد بدأت تتجه إلى تنفيذ مشاريع زراعية في تلك المناطق بعد أن أصبح الاستثمار في الإنتاج الزراعي والغذائي مربحا في ضوء أزمة الغذاء العالمي، وهو اتجاه حميد مطلوب تعزيزه بتوجه عربي عاجل للاستثمار الزراعي في السودان حتى لا يكون هذا مجرد توجهات فردية لبعض رجال الأعمال والمستثمرين. ومن ناحية أخرى، يجب ألا ننسى أن دعم مشاريع التنمية وخاصة التنمية الزراعية والحيوانية في جنوب السودان ودارفور من جانب العرب هو ضرورة استراتيجية لتعزيز مشروع السلام الشامل في السودان، ولتحقيق هدف حماية وحدة السودان أو «السودان الموحد«، والتصدي للمؤامرات الخارجية الرامية إلى تقسيم وتفتيت السودان والتي تجري عبر دعم القوى والاتجاهات الانفصالية في تلك المناطق وخاصة في دارفور وجنوب السودان. ومن هنا، نقول ان إحياء مشروع جعل السودان «سلة الغذاء العربي«، يعتبر هدفا استراتيجيا حيويا أصبح أكثر إلحاحا في ضوء أزمة الغذاء العالمي من ناحية، والحرص على حماية مسيرة المصالحة وتحقيق السلام الشامل في السودان من ناحية أخرى. إن الحاجة الملحة الى تحقيق «الأمن الغذائي العربي« أصبحت تدعو أكثر من أي وقت مضى الى ضرورة التحرك سريعا لجعل هذا الهدف على رأس أولويات السياسات العربية في المستقبل المنظور. خامسا: في تقديرنا أنه إذ لم يتوافر الإجماع العربي على المسارعة إلى إحياء مشروع جعل السودان «سلة الغذاء العربي« فإن تعاون ثلاث دول عربية فقط تحظى بقدر كبير من التوافق السياسي والتفاهم بين قادتها وهي مصر وليبيا والسودان، لهو أمر بامكانه أن يجعل الحلم حقيقة، فليبيا تستطيع توفير التمويل اللازم بما تمتلكه من عوائد نفطية وخاصة بعد ارتفاع أسعار النفط، ومصر تستطيع توفير الطاقات البشرية والخبرات والكفاءات في مجالات الزراعة والري، وتستطيع الحكومة السودانية تقديم كل التسهيلات القانونية والتشريعية والجمركية وغيرها فضلا عن الأراضي والمياه اللازمة للمشروع التي تساعد على استزراع منطقة شمال السودان لتكون منطقة تكامل تنموي وزراعي بين الدول العربية الثلاث المتجاورة التي كانت قد وقعت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي مشروعا لاتحاد الجمهوريات فيما بينها قبل أن تباعد بينها الخلافات السياسية، ولكن إحياء مشروع استصلاح وزراعة الشمال السوداني يمكن ان يحقق أرضية جديدة للتكامل بين الأقطار العربية الثلاثة من جديد، وخاصة في ظل مرحلة التقارب والتفاهم السياسي الراهنة التي تشهدها العلاقات بين كل من مصر والسودان وليبيا، حيث تعمل الدول الثلاث على التصدي لمخططات تقسيم السودان ومحاولة حل مشكلتي دارفور وجنوب السودان عبر جهود المصالحة. سادسا: إننا نطمح إلى أن يكون مشروع جعل السودان «سلة الغذاء العربي« مشروع كل العرب، لأنه يحقق لهم الاستقلال الغذائي الذي يخلصهم من الارتهان لإرادة المستعمر الخارجي الذي يستغل الغذاء سلاحا لتطويع الارادات السياسية وفرض التجويع وإخضاع القرار السياسي، وكلنا يتذكر الحكمة العربية الشهيرة التي تقول: «من لا يملك غذاءه.. لا يملك استقلالية قراره«. وقد قال جبران خليل جبران في هذا السياق مقولته الشهيرة: «ويل لأمة لا تأكل مما تزرع.. ولا تلبس مما تنسج«. فتأكيد استقلالية القرار السياسي العربي يحتاج بشكل ملح إلى تحقيق الاستقلال الغذائي العربي، ولا شك أن مشروع جعل السودان «سلة الغذاء العربي« بما يمتلكه من مؤهلات زراعية وحيوانية قادرة على تحقيق ذلك خلال أعوام محدودة، هو الطريق اللازم الذي تأخر العرب في سلك سبيله من أجل التخلص من التبعية للخارج، والتصدي لاحتمالات ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية عليهم عبر سياسات التجويع. سابعا: ان هناك حاجة ماسة الى إعادة النظر في أولويات الاستثمار العربي، وخاصة بشأن عوائد الطفرة النفطية الجديدة بعد تجاوز برميل النفط حاجز ال 120 $، فيما يتوقع خبراء أن يرتفع إلى نحو 150 $ خلال أقل من عام. وعلينا الاعتراف بأن التوسع في الاستثمار العقاري الذي يتم توظيف عوائد نفطية كبيرة فيه في منطقة الخليج لا يشكل الخيار الوحيد لاستثمار عوائد الطفرة النفطية الجديدة، كما ان وضع هذه العوائد في هيئة أرصدة في المصارف الغربية أو صناديق سيادية يتم استثمارها في الغرب هو أمر لا يحظى بالأمان في ظل التهديدات الغربية التي بدأت تلوح في الأفق واحتدمت خاصة خلال حملة الانتخابات الأمريكية بشأن صناديق الاستثمار السيادية، حيث تنصب التهديدات على الصناديق السيادية الخليجية بصفة خاصة، ناهيك عن مخاطر تجميد الأرصدة وهي السياسة التي لم تتورع القوى الغربية عن اللجوء إليها في مناسبات وأزمات كثيرة سابقة. ومن هنا، تبدو الضرورة الملحة لتوظيف جزء هام من عوائد الطفرة النفطية العربية الجديدة في الاستثمارات الزراعية والصناعية والمشاريع التنموية في الأرض العربية بما يحقق أهداف تشغيل الطاقات الشبابية العربية والتصدي لمشكلات البطالة التي تهدد الملايين من الشباب العربي. ولهذا، نعتقد بإلحاح أن إحياء مشروع جعل السودان «سلة الغذاء العربي« هو مشروع يستحق أن يحظى بقدر كبير من الاستثمارات العربية الجديدة باتجاه توظيف أكثر فاعلية ونجاعة لعوائد الطفرة النفطية العربية الجديدة وخاصة بالنسبة لرؤوس الأموال الخليجية.. فهل يتجاوب العرب مع هذا المشروع الاستراتيجي المصيري الذي من شأنه أن يعزز استقلاليتهم وحريتهم وكرامتهم؟!