الأهرام 03/12/07 وقعت حكاية صانع الأحذية في قرية تابعة لإقليم باتجاه البحر من لشبونة, في منتصف القرن الخامس عشر, حيث تعلم حرفة صناعة الأحذية قبل أن يشتد عوده, واكتسب فيما بعد دراية فائقة بأعمال الدباغة. ومن الواضح أنه لم يكتف بحرفته التي بمردودها يحقق إشباع حاجاته الطبيعية في العيش, لذا سعي إلي تعلم القراءة, واجتهد في اللغة اللاتينية, بما يسمح له أن يحشر بعض كلماتها في حديثه, حتي لو كانت في غير موضعها, ولما شقت عليه الكتابة ولم يستطع تعلمها, راح يمارس الدعوة إلي آرائه بالكلام المباشر الشفهي علي المحيطين به, متخذا من الورشة التي يعمل بها مكانا لممارساته بعد انتهاء عمله, ليوهم الناس بالاصطناع أنه قد لا يمتلك المال, لكنه يمتلك من الحقيقة والمعرفة ما لا يمتلكونه. أعلن صانع الأحذية علي المحيطين به حقيقة مذهلة, ذلك أن هؤلاء الذين يعيشون في هذا العالم ليسوا ببشر, وأن من يتظاهرون منهم بأنهم بشر, إنما يفعلون ذلك كما لو كانوا بعضا منهم. صحيح أن الأذن والعقل من آليات فرز الكلام, تدقيقا لما يتضمنه من توجهات, لكن صانع الأحذية كان يستشهد بالأحداث الراهنة للتدليل علي ما يطرحه, وفق صياغة مازجة بين السياسة وما يحدث من جرائم, موظفا حقوق الحرية اللامشروطة للخيال للتأثير في الناس وافتتانهم بما يطرحه, بالشكل الذي لم يرد في أي كتاب, بل حتي في الواقع. أسعدت فكرته وأرقت من يسمعه, وتزايد عدد مستمعيه, فوسع دائرته بأن اتجه إلي أسواق المناطق المجاورة, فلاقي إقبالا كما لو كان أحد الفنانين أو السحرة. لا شك أن ما طرحه صانع الأحذية ليس خطابا اعتباطيا أو خطاب تسلية, بل هو خطاب تشكيك في حقيقة قائمة, ويستهدف نفيها تسويقا لفكرة مناقضة, طرحها صانع الأحذية ليحقق هدفا لاحقا. ومع أن الخطاب يتضمن تضادا ملحوظا وواضحا, يستوجب طرح الأسئلة, فإن ما فيه من بريق كثافة المعني الخرافي وحجم إثارته, قد استحوذ علي اهتمام سامعيه واستقطبهم, مما حجب عنهم حتي إمكانية مساءلة البداهة, بأنه اذا كان صحيحا أن البشر ليسوا بشرا, فإلي من ينتمي السامعون إذن, بل إلي من ينتمي صانع الأحذية نفسه؟ لقد أوقع الخطاب سامعيه في حيرة بتشكيكهم في هويتهم ووعيهم بذاتهم, فوضعهم أمام معضلة أنهم يعيشون في واقع ملتبس, حيث إنهم ليسوا بشرا, لكنهم بالتمويه المتقن يتظاهرون بأنهم بشر, وذلك بالمخالفة لهويتهم الأصلية التي لا يعرفونها. عندئذ يظل السؤال المسكوت عنه قائما: هذه الهوية الخفية المعطلة, كيف يمكن إعادة انتاجها؟ وأية حياة مفترضة يجب أن يعيشوها في ظلها؟ بالطبع إن السر المستتر لا يعرفه سوي صانع الأحذية وحده. بلغ دوي شهرة صانع الأحذية إلي حد دعوته إلي مناظرة في لشبونة. وأمام مجلس المناظرة مارس دفعا صاخبا بضخ شحنات من الشطحات التي تشل العقل وتنتزعه من قوانينه, ليصبح فريسة الخرافة بوصفها الوحش الدائم المتربص به, حيث راح يطرح تفسيره لدعوته, مؤكدا أن البشر قد غرقوا في الطوفان, أما الذين هبطوا من السفينة بعد الطوفان, فلم يكونوا هم أنفسهم البشر الذين لاذوا بها, إذ نتيجة للاضطراب الذي صاحب تحميل السفينة, اختلطت الغيلان بالحيوانات, وفي أثناء الطوفان قتل الغيلان البشر الذين كانوا علي السفينة, ثم ادعوا بعد الطوفان أنهم البشر. استمر صانع الأحذية في استلاب مستمعيه بالتسلط عليهم بمزيد من الدفع بالخرافات, لتشكيكهم في هويتهم, والسيطرة علي عقولهم, فاستطرد شارحا: انه لم يكن هناك من أحد يمكنه أن يثبت للغيلان عكس ما ادعوا, حيث كانت الحيوانات وحدها الشهود عليهم, ومع أن الحيوانات حتي ذلك الوقت كانت تجيد لغة البشر, فقد انعقد لسانها من جراء ما شهدوا علي السفينة, من لحظتها فقدت الحيوانات قدرتها علي ممارسة لغة البشر, لذا فإن ما يصدرونه من أصوات منذ ذلك الحين, ما هو إلا نواح وأنين من أن الذين يظهرون كبشر ليسوا أبدا ببشر. لا شك أن صانع الأحذية بخرافاته التي يطرحها, قد استهدف إعدام الوعي لدي سامعيه بهويتهم, وتمزيق جوهرهم الانساني, والإيعاز بالالحاح علي انفصالهم عن الحياة بشرطها البشري. وعندما طالبوه في مجلس المناظرة بقرائنه وبراهينه المؤكدة لدعوته, تزايد انغمارا في الخرافات والأوهام, فجاءت كلها ساقطة عن الإقناع, وهو مازال مستمسكا بأن من يدعون أنفسهم بشرا, إنما هم سلالة الغيلان. قام المناظرون له بتحسس رؤوسهم, ورسم الصليب علي جباههم اتقاء تجديفات خرافاته, لا خلاف أنهم اكتشفوا أن معتقده محض خرافة, وليس هناك من مصدر لمرجعية عقلية أو قرائن تاريخية تضفي مشروعية عليه, إذ هو تشكيك مفضوح محروم من أي سند, وسقط أمام المناقشة وتعري. لكن علي الجانب الآخر, غاب عن المناظرين سؤال الوعي الإدراكي عن الدوافع والمقاصد التي وراء معتقده, والفعل اللاحق له, أي السؤال الذي يحاول الكشف عن إدراك العلاقة بين هذا المعتقد بوصفه قناعة والفهم التطبيقي له في حياة المجتمع, وإلام يؤدي؟ إن الذين ناظروا صانع الأحذية في خرافته التي أطلقها, وكشفوا تهافت دعوته وزيفها, اكتفوا بما دار داخل القاعة المغلقة, ولم يسعوا إلي حوار مفتوح مع مجتمعهم, يفند للناس انتهاكاته, ومحاولات تشكيكه في حقيقة انتماء الناس إلي الجنس البشري, وأنه بذلك يروج حقيقة لحسابه, وأن دعوته تعني الوصول إلي القطيعة الكارثية مع منظومة القيم والأفكار والتوجهات, التي تعد بنية الوعي بالوجود, بل المولدة والمنظمة لممارسات المجتمع كلها, ويعبر بها المجتمع الإنساني عن هويته المرتكزة علي مبدأ العدالة, العدالة التي تتصدي للشر وتجاهده, لذلك اجترأ صانع الأحذية وانبري في غياب المواجهة العامة لدعوته, إلي ممارسة التطبيق لمعتقده الذي روجه, منطلقا من أنه إذا ما كان البشر ليسوا ببشر, فمن الهراء سن تشريعات إنسانية تحكم سلوكهم, لذا أعلن علي الملأ رفع قيود القوانين, وإطلاق حرية الممارسات الإباحية كلها, وإلغاء الزواج, حيث في الحياة التي ليست حياة البشر, لا إدانات ولا محاسبة, كل يسعي إلي مصالحه الفردية وفقا لعلاقات القوة, وليس وفقا لعلاقات المعني. انطلقت إلي صانع الأحذية جماعات من أماكن متفرقة للاستقرار في رحابه, ممن أصابهم هوس تشكيكه, وجنوح خرافاته, وتأثير أحابيله الكلامية عن الفردية الجامحة, فاستهوتهم دعوته عن تلك الهوية المعطلة, المضادة للإنسانية, التي تكرس للخلاص الفردي دون الخلاص الجماعي, وتضع حدا للقطيعة مع تيار القيم وعلاقات المعني, بوصفها قاعدة الضرورة لبناء الحياة الإنسانية علي محور العدالة. وتنتهي قصة معتقد الجلد المدبوغ, الصادرة عام2002, للكاتب السويسري هوجو لوتشر, باعتقال صانع الأحذية, وتخليه عن معتقده, ثم موته الذي يعني موت دعوته. لقد فضح الكاتب تلك الدعوة التي باستخدامها التشكيك, بوصفه من آليات السيطرة علي مقدرات الناس, قد راحت عن طريقه تستحضر طبيعة وحشية موازية, تؤسس لسلوك بربري يسقط عن البشر الهوية الإنسانية, في حين أن تاريخ البشرية لا يمكن أن ينفصل عن المعيار الأخلاقي, الذي يشكل مبدأ العدالة جوهره, انطلاقا من أن الإنسان في ذاته واحد لكنه في وجوده الاجتماعي ليس واحدا, لذا فإن أية ممارسة له تخل بمفهوم العدالة تغدو خالية من أية قيمة أخلاقية. ورهاننا اليوم يفصح عن حملة تشكيك واضحة يمارسها المناهضون للعدالة الاجتماعية, برفضهم مبدأ وصول الدعم إلي مستحقيه, وذلك بإثارة محدودي الدخل والفقراء, وتشكيكهم مستقبلا في إمكانية وصول الدعم إليهم, ومن ثمة تحسبا للاحتمالات الأسوأ للمستقبل يجب المطالبة باستبقاء عمومية الدعم للجميع, أي لمن لا يستحقونه الذين يحصلون عليه دون استحقاق, ثم يمارسون الاتجار به, استنزافا للموارد في غير غاياتها, وتفريغا للعدالة الاجتماعية من مضمونها, بنهبهم لما هو حق لغيرهم في مجالات الحياة الاجتماعية. تري ألم يحن الوقت لمواجهة حملات التشكيك بالنقاش العقلاني في حوار مجتمعي متعدد الأطراف يحمي العدل الاجتماعي من العبث به؟ المزيد فى أقلام وآراء