إنها ورقة قديمة، وجدتها محشورة بين أوراق أخري، أبعدتها عني لأتحاشاها، لكنها تخايلني، قرأتها ثانية، طبعا أنا ناسخها، فهذا خطي، وهذه الياء يائي، ولكنني لا أعرف كاتبها، أنا أم سواي، قد أكون إذا نسبت أفكارها إلي أفكاري الكاتب الأصلي أو الكاتب المزور، ولكنها تشبهني، الآن أحس بأفكارها المبتورة تعتدل وتطول وتصبح مثل دبابيس تخزني، فلا أحاول الفكاك منها، ولكنني سأستريح إذا فضحت أسرارها، ومثل روائي يخاف ويخجل من الاعتراف بأنه روائي، أحس الورقة تتهمني بذلك، الواجب الآن ألا أنظم هذه الأفكار المبتورة، أن أعرضها كما هي مفككة مضطربة. الواجب ألا أقطع حبلها السري، يكفي أن أدخل يدي الاثنتين وأن أفتح الرحم، فتسقط تلك الأفكار علي حافة السرير، الرواية فن جشع، أول أهدافه وأهمها أن يحل محل الفنون جميعا، لذا فهي أي الرواية ترضع من أثداء الفنون جميعا، ترضع كأنها ظمأي وجائعة ونهمة لا يمكن إشباعها، ترضع وهي تعلم أنها أكثر وسائل التعبير قابلية للتذوق لدي الجمهور الواسع من القراء، وأنها حيوية، وعلي قدر حيويتها تأتي سهولتها وطواعيتها، وعلي قدر طواعيتها تبرع في اختيار ملابسها وأدوات زينتها، وتوحي لكل من يراها أنها هي مرض الرواية، توحي أنها صحة الرواية، توحي أن كل فرد معرض أن يصاب بها، معرض لأن يشفي منها، الفرد الذي لا يكفيه ضميره، و لا تكفيه حياته، فيرغب أن يحب بسادية انتهاك ضمائر الآخرين، وعيش حيواتهم، تلك الضمائر التي تجعل الفرد مضاعفا، كذلك الحيوات التي تجعل الحياة مضاعفة، وأيضا تجعل الموت مضاعفا، فالرواية هي بديل الموت، والموت الذي قد يكون الوسيط بين الفن والبشرية، هكذا يري بيير بورديو وهو يكتب عن نيتشة، الموت يعرف المخاطر التي تتعرض لها البشرية، وكما لو كان الموت رءوفاً يبدو كأنه يتمني تجنيب الفن تلك المخاطر، خاصة مخاطرة الموت الكبري المتعلقة بالعدم، الذي يعاديه الموت، إذا تخلت البشرية عن كونها هي نفسها (من) سوف يجري الكلام بواسطتها عن الفن، أو الاعتراض بشأنه، فيتعرف الفن عبر هذا الكلام علي حدود الخطاب وحدود الخطاب حدود واجبة الانكشاف لتحقيق إرادة إزالتها، إذا تخلت البشرية عن ذلك كله، فإن خطر العدم يزداد شراسة، يزداد وضوحا، عموما حيوية الرواية وطواعيتها وغزارة ترجماتها جعلت من الثقافة الروائية ثقافة عالمية، علي الرغم من الاختلافات الظاهرة بين الروايات الأوروبية والأمريكية والروسية والأمريكية اللاتينية والأغريقية واليابانية، لأن الرواية غير الأوروبية علي سبيل المثال تطورت ونمت في عوالم تختلف اجتماعيا وثقافيا عن الرواية الأوروبية، كما أن تاريخ الرواية غير الأوروبية لا يمكن أن يختلط مع تاريخ الرواية في أوروبا، المؤرخون كلهم يشهدون تقريبا بأن الرواية الغربية ولدت ساعة ميلاد الإنسان الحديث، وتطورت معه ساعات تطوره، وأن تاريخ الاثنين الرواية والإنسان الحديث هو تاريخ يصعب تفكيكه، فكلاهما يختلط بالآخر اختلاط الماء الساخن بالماء الاكثر أو الأقل سخونة، والإنسان الحديث قد يكون حكاية حياة، والرواية قد تكون حكاية حياة، لذا فهي إغراء يسير فيه الكثيرون وبينهم أغلبية من منعدمي المواهب، فانعدام الموهبة يدفع الشاب أو الشابة - هذا في الغالب وعلي الأرجح - يدفعه إلي التفكير في اختيار الكتابة، خاصة كتابة الرواية، فعصرنا المكتظ بالحداثة والتقنية أصبحت لحداثته وتقنياته دورا في تقليص عمل العامل، دورا في تحويل العمال إلي عمال غير فنيين، دورا في إزاحتهم وتحويلهم إلي قوي عاطلة، مما جعل الافتتان بالفن أمرا شائعا بين الشباب الطامح إلي تحقيق حريته، حيث الفنان هو الإنسان الوحيد الذي يمكن أن يبدو بكل جدية وبساطة وكأنه سيد نفسه، وما دام كل شخص يملك حكاية أو حكايات، فيكفي أن تكون بشرا حتي تصبح صاحب استحقاق في أن تكون كاتبا روائيا، ومن هنا تنشأ صعوبة الرواية، ومن هنا تنشأ سهولتها، ومن هنا أيضا يمكن النظر إلي فن الشعر علي أنه فن بحت، لا يرجي منه كسب مادي، ولا منافع، ولقد عززت الطباعة وانتشار القراءة وانهيار شفاهة الشعر لصالح تدوينه الإحساس بأن فن الشعر أصبح فنا بحتا، كما عززت ذلك أيضا قصيدة النثر بانصرافها شبة كاملة عن اللغة كصوت، وكان من المظنون أنها سوف تجعل الشعر أكثر قابلية للتداول، ولما أصبحت مدننا حديثة، وأصبحت المدينة الحديثة قادرة علي تحويل وقت الفراغ إلي أوقات الراحة والاسترخاء والسفر والاستمتاع بنزعات الاستهلاك، لما أصبحت المدينة الحديثة قادرة علي تحويل وقت الفراغ، إلي وقت مقدس، أصبح الشعر الذي صار فنا بحتا هو الباب المفتوح علي الزمن المفقود، هو الباب المفتوح علي التفاهة أحيانا، وأصبح الشاعر مجرد إنسان كسول، المدينة الحديثة لا تختلف عن مدينة أفلاطون، كلتاهما لا تحتاج إلي الشعر، كلتاهما تكرهه لذا وجد الشاعر نفسه مجبرا علي قبول الفصل التام بين الجميل والنافع، وإلا سقط في بئره العميقة، وأصبح علي الجميع ومنهم الشاعر، ضرورة إهمال البحث عن الكمال والكامل، لأنه بحث صوفي فيه مضيعة للوقت والجهد، ومع فقدان الإيمان بأزلية العالم المادي، تجدد الاقتناع بالأعمال البسيطة والارتجالية، تجدد الاقتناع باحترام الثقافات الأخري، ليس لأنها مكتملة، ولكن بدافع النسبية، التي تقضي بأن النقص هو القضاء والقدر الملازمان لكل عمل، لم يبق للفنان إذن ما يضمن له أن ما يقدمه من أعمال فنية سيكون ممتعا أو مفهوما، سواء لجيله أو للأجيال التالية عليه، لم يبق للفنان بحكم رغبته في نجاح عاجل وفوري، لم يبق له ما يضمن سلامة عمله وكماله داخل عالم يضج بالتغير المستمر والسريع في أنماط الحياة، ويضج بغزو التكنولوجيا بما فيها تكنولوجيا الأمراض والمناخ، مما جعل إمكانية أن نتخيل المستقبل القريب أشبه بالحلم المستحيل، أو الحلم الفارغ، فأنت عاجز عن أن تتصور ما ستكون عليه الحياة بعد عشرين عاما علي الأكثر، الماضي الضائع والمستقبل المجهول والحاضر القائم علي رمال متحركة، جعل الميل لإبداع أعمال مكشوفة أو صحفية أو ساذجة هو أحد أعراض وضعنا الأدبي الحالي، وأكثر الأشكال إغراء لهذا العرض هو الشكل الروائي، فالشكل الروائي ذاته يجعل من العمل الأدبي أسطورة صغيرة تدور حول ذات صغيرة وتشملها، كما أن الروائيين أنفسهم تحت وطأة هذا الإغراء، يجنحون أكثر إلي كتابة الرواية الواقعية، ولا يفكرون كثيرا في منح أنفسهم أوقات مرحة تقودهم إلي صناعة الخرافة والخيال، وينظرون إلي صناع روايات العطر والنمل وكانكان العوام وانقطاعات الموت وكأنها غير قابلة للخروج إلي سماوات أخري، فكلما كانت الروايات واقعية كلما قبلت أن تتناسخ وتظهر في أشكال جديدة خاصة الأفلام، والسينما هي الفن الأقوي والأقدر علي امتلاك تقليد الواقع بامتياز، والركض خلف السينما، يشبه الركض خلف الحلم الأميركي، في الرواية الأمريكيةالجديدة يتجلي الإصرار علي أن يكون الظاهر علي سطح الرواية هو المعني، وأن يكون القاع ضحلا دائما، ذلك القاع الرمزي، وألا يوجد هواء كثير وظلام أكثر بين السطح والقاع، ألا يوجد سوي تلك المساحات البيضاء، المدينة الحديثة جدا، مدينة ما بعد الحداثة، نيويورك لوس أنجلوس وغيرهما، لا تنتج الرواية كرأس رمح لفنونها، ففي أميركا رأس الرمح تجسده فنون اخري كأنماط معينة من الموسيقي والشعر والسينما والرسم، مدينة القرن التاسع عشر ?القديمة الآن- أنتجت الرواية وروجت لها، والآن يقوم بالمهمة ذاتها المدينة العالمثالثية المتريفة، المدينة التي علي حافة المدنية، وعلي حافة ما قبل المدنية، ولذا لم نصبح أبدا حداثيين بالقدر المطلوب، معاصرين بالقدر المطلوب، أذكياء بالقدر المطلوب، لم يستطع السيد أحمد عبد عبد الجواد أن يقدم نفسه كآخر رجل كامل الرجولة في عالم تخلي عن الرجولة، كنا في الماضي نردد مع نيتشة: ما من عسل أحلي من عسل المعرفة، دون أن نعتني بإدراك المقصود بالمعرفة، والآن أصبحنا نردد ومع نيتشة أيضا: الرحمة هي ممارسة العدم، دون أن يفهم الأبناء الجدد معني العدم عند نيتشة، زمن الرواية، أم زمن الرواية العالمثالثية، أم زمن العدم ، أم البحث عن زمن الرواية.