الكثير من المحللون يتوقعون تغير خريطة الشرق الاوسط بعد ما حدث فى العراق و سوريا و انفراط عقد الدولة هناك ، و يتنبئون بسقوط خريطة حدود "سايكس بيكو" التى تعود الى فترة مابعد الحرب العالمية الاولى والتى اسست لخريطة الشرق الاوسط التى ظلت قائمة حتى وقت قريب . لكن هل تغير خريطة الشرق الاوسط يعد لصالح الولاياتالمتحدة و مشروعها للشرق الاوسط الكبير الذى تحدث عنه الكثيرين منذ سنوات و خاصة بعد غزوها للعراق عام 2003 ، ام انه يجهض مخططات واشنطن التى كانت تضعها لتنفيذ الشرق الاوسط الكبير وفقا لمفهومها الاستراتيجى؟ . نهاية العراق .. و فشل السياسات الامريكية احد الاجابات عن هذا التساؤل قد نراها فى حواشى كتاب امريكى نشر فى مارس الماضى بنيويورك تحت عنوان " نهاية العراق The End Of Iraq" للكاتب الامريكى بتر جالبريث Petrew Galbraith ، و الذى يبرهن فى متنه على على وجهة نظره بأن العراق الموحد قد ذهب إلى غير رجعة، بعد أن كتب الأمريكيون شهادة وفاته، وان عليهم الآن الاعتراف بخطيئتهم الكبرى وفشل مخطاطاتهم باستخراج شهادات الميلاد الخاصة بدويلاته الثلاث ، كردية موالية للغرب بالشمال وشيعية لإيران بالجنوب وسنية بينهما تعمها الفوضى و ستكون وبالا على المنطقة كلها . بيتر جالبريث يرى ان الغزو الامريكى و ما رافقه بعد ذلك من مخطاطات استراتيجية و امنية للمنطقة ، لم يتحقق بل جعل العراق كالقنبلة المؤقوته التى سيؤدى انفجارها لتفجير الشرق الاوسط الحالى و بالتالى تفجير مخططات الشرق الاوسط الكبير الذى وضعته واشنطن فى العقد الماضى .. و لكن المؤلف يرى مخرج واحد فقط للخروج من هذا السيناريو و هو ان ثمن توحيد العراق سيكون بزوغ ديكتاتورية جديدة وهذا سيكون ثمناً باهظاً فاحش الغلاء . ويبدو من موقف واشنطن الحالى ازاء " نور المالكى " انها ترفض دفع هذا الثمن ، فديكتاتورية المالكى لن تسمح باعادة توحيد البلاد بل انها لكونها ديكتاتورية اعتمدت على الطائفية " الشيعية " كانت السبب فى هذا الخراب و التمزق الذى تشهده البلاد الان . وراى جالبرث من الاهمية فى كونه كان أحد أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأمريكي في الثمانينات والتسعينات مما سمح له بالاطلاع من حيث موقعه على الكثير من التقارير والوثائق السرية، التي كانت تقدم للكونجرس ولا تذاع على الرأي العام. ويقول جاليبيرث في كتابه " إن الولاياتالمتحدة التي غزت واحتلت العراق بهدف معلن هو تحويله لبلد ديموقراطي كنموذج يمكن تعميمه في الشرق الأوسط قد دمرته تماماً ودفعته بسياساتها المجرمة نحو تقسيم لا مفر منه .. و يرى ان محاولة واشنطن لبناء ديمقراطيات علمانية في العالم الإسلامي، قائمة على دعم المساعدات العسكرية والمالية الغربية، اصبح مشروعا فاشلا و لن تقوم له قائمة . ويتفق الكثير من المحللون مع هذا الراى حيث يرون الان بعد ماحدث فى سوريا و العراق ، فان الانظمة القائمة فى المنطقة اصبحت عرضة للتهديد الإسلامي المتطرف بشكل متزايد، وان المشروع الأمريكي في إعادة هيكلة العراق بعد أن أطاحت واشنطن وحلفاؤها بصدام حسين المعادي لهذه الدول والمكروه من قبلها، وأصبح من الواضح أن نظام رئيس الوزراء نوري المالكي الذي حل محل "الديكتاتور العراقي" لم يستقر ولن يدوم مهما بلغت مليارات المد الغربي والوجود العسكري الأمريكي الداعم له ، بمسانده الأسلحة والخبراء العسكريين و شركات الامن الامريكية . لقد ألغى التفوق و التقدم المفاجىء و المذهل لجماعة "الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام" نتائج سنوات عديدة من الجهود الامريكية التى تصب في إطار "إعادة بناء الديمقراطية" في العراق من المنظور الامريكى ، لكن مايحدث الان يثبت ان النظام السياسي الذي أسس بايد امريكية لا يستطيع توفير التوازن بين مصالح الأغلبية الشيعية والأقلية السنية، ولا أن يحمي مصالح كردستان العراق الذين تهفو انفسهم للاستقلال الوطنى. يقول الخبيرالروسى فى شئون الشرق الاوسط " سيرغي تومِن" انه نتيجة لذلك، تقوم جماعة "داعش" المتطرفة اليوم بالإستيلاء على زمام المبادرة، و ستكون النتيجة ليس فقط بالاطاحة برئيس الوزراء" نوري المالكي" وحسب ، بل ستكون النتيجة تفكك الدولة العراقية وما يعني ذلك من إعادة رسم الحدود الإقليمية، "الفشل المتعمد" نجاح لسياسات واشنطن الجديدة اجابة اخرى عن التساؤل المطروح يطرحها بعض المحللون الذين يراقبون الوضع فى العراق و سوريا و يضاهونه بالسياسات الامريكية المعلنة ازاء مايحدث على الارض فى هاتين الدولتين ، و هؤلاء يرون ان الوضع القائم يشير الى حقيقة جديدة يغفل البعض عن وضع تسمية لها ، و لكن يمكن اطلاق عليها سياسة " تعمد الفشل" و هى سياسة يرى البعض انها جزء غير معلن من سياسات ادارة الرئيس باراك اوباما ، بان يتعمد الفشل او عدم اتخاذ اجراء او التلكؤ فى صياغة مواقف حاسمة ، و كلها تصب فى استراتيجية واحده هى " تعمد الفشل" التى ستحقق الهدف المنشود باعادة تخطيط خريطة المنطقة و اعادة هيكلة الانظمة الفاعلة و الحاكمة لشعوب المنطقة . وقد يصف البعض الأوضاع في العراق بأنها فوضى وفشل للسياسة الأمريكية كما يؤكده "روبرت فيسك " بمقالاته المدوية فى الإندبندنت والحقيقة هي أن النجاحات الأمريكية في العراق وفق التصورات الأيديولوجية للسياسة الأمريكية قد تحققت فعلا من خلال هذا الفشل والإخفاقات وشيوع ظاهرة الفوضى لأنها وحدها التي تستطيع أن تلغي مجتمعا وقدرات عربية وإسلامية من المشاركة فعلا والتأثير في سياسات المنطقة على المدى الطويل لتستفرد وتستأسد فيها حليفتهم المقدسة إسرائيل وهي المقصودة أصلا على مدار أكثر من نصف قرن في سياسة الجمهوريين والديموقراطيين معا.. لذا يمكن ان نقول بوضوح ان سياسة " تعمد الفشل" كان هو البديل الإستراتيجي للسياسة الأمريكية في العراق ، و يبدو انها استراتيجية ناجحة على مايبدو . افغانستان و باكستان على الطريق ما حدث بسوريا و يحدث الان فى العراق سيكون له اثر اوسع نطاقا على دول الجوار و على راسهم افغانستانوباكستان ، ومع تطور أحداث الشرق الأوسط اصبحت الدولتان فى خطر محدق سيتسع بلا شك ليؤثر على وسط وجنوب آسيا، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هجوم المتطرفين من السنة على بغداد تزامن مع تصاعد نشاط حركة طالبان في أفغانستانوباكستان، وكذلك الجماعات المتطرفة القريبة منها، والتي تسعى لتغيير النظام في كابول وإسلام آباد، لذلك قررت السلطات في باكستان تجنب سيناريو العراق محاولة إحراز السبق، فشن الجيش حملة عسكرية واسعة في مناطق القبائل ردا على هجوم طالبان على المطار في كراتشي وغيره من هجماتها في الأسابيع الأخيرة". قد يتكرر السيناريو العراقي في أفغانستان، فطالبان لا حاجة بها لانتظار انسحاب القوات الأميركية من البلاد ، فهى بالفعل تعمل فى داب على على زعزعة الهيكل الذي أسسته واشنطن تحت اسم "أفغانستان الحر والديمقراطي"، ليصبح الوضع في البلاد أكثر توترا، فالسلام بين الفرق المتنوعة في أفغانستان لا يزال هشا للغاية وقد يتفجر الوضع في أي لحظة، كما حدث في العراق. فموجة التطرف السني التي ظهرت في الشرق الأوسط لا يمكن أن تتوقف في بقعة واحدة، والإطاحة بالمالكي في العراق وإقامة حكم إسلامي فيه ستكون حافزا إضافيا للإسلاميين خارج نطاق العالم العربي، هذا التطور في الأحداث لا يمكن إلا أن يلهم أولئك الذين يقاتلون ضد القوات الحكومية الباكستانية في شمال وزيرستان، ويشن هجمات جريئة متصاعدة في نواحي أفغانستان المختلفة". الخطر يحدق بالانظمة الملكية المجاورة القول بان تنظيم "داعش" تنظيم ليس عابرا للحدود فقط وانما مدمر لها ايضا ، قول تدركه بشده المملكة العربية السعودية و المملكة الاردنية الهاشمية .. وهما من الممالك السنية الاقرب للعراق و سوريا و هما الاقرب للتاثر بما يحدث فى منطقة الشام و العراق ، و اصبح من المؤكد انه في حال سقوط النظام في العراق، فانهما سيكونان عرضة لتزعزع الاوضاع . السعودية والاردن هما الاكثر قلقا ورعبا من ظاهرة "الدولة الاسلامية" التى تكتسب اراض جديدة فى كلا من العراق و سوريا يوميا ، وهذا التقدم العسكري السريع، وحالة الاعجاب التي يحظى بها في اوساط بعض الشباب الاسلامي المحبط ، يدفع القيادة فى المملكتين الى اعلان ضرورة وضع حد للازمة العراقية ، ولم يكن من قبيل الصدفة ان يرأس العاهل السعودي اجتماعا لمجلس الامن الوطني السعودي، الذي لم يسمع به احد منذ سنوات فور عودته من اجازته السنوية في المغرب، وان يعلن حالة الطوارىء القصوى في صفوف قواته، وتعزيز قواته باكثر من 30 الف جندى على الحدود مع العراق والاردن للتصدي لهذا الخطر، ولم يكن من قبيل الصدفة ايضا ان تتخذ السلطات الاردنية الاجراءات نفسها بعد ان احتلت قوات الدولة الاسلامية "داعش" معبر طريبيل الحدودي.